و حين هاجر الرسول إلى المدينة، دخل النص القرآني في ظروف جديدة. فقد توسع الإسلام في هذه البيئة و ازداد عدد المسلمين مع دخول الكثير من القبائل العربية من مختلف أرجاء الجزيرة العربية.و كان لكل قبيلة من القبائل التي آمنت لهجتها و التي لم تكن موحدة اللهجات، فكان القرآن يُتلى في هذه البيئة المختلفة اللهجات، و إنّ فروقاً لهجية كانت تعيش إلى جانب هذه اللغة الموحدة أى لغة القرآن، و كانت هذه اللهجات تتميز بسمات لغوية في مجالات الأصوات و الصرف و النحو و الدلالة أحياناً.

هذه الظروف الجديدة للنص القرآني قد أحدثت أصداء في أداء هذا النص المقدس، فظهرت في هذه البيئة اختلافات في أدائه و قراءته، و قد ذكرت كتب القراءات أمثلة من هذه الخلافات في عهد الرسول(ص) و قد إحتكموا إليه فأجازها ((ما لم تجعل رحمة عذاباً أو عذاباً رحمة))[2] و قد رُوىَ حديث الأحرف السبعة [3]في هذه البيئة الجديدة أى المدينة.

و بعد حياة الرسول (ص) ازدادت رقعة الإسلام سعة و تكاثر المسلمون من العرب و الأمم الأخرى فصار الخلاف في قراءته مدعاة لزيادة التفكير في الحفاظ على هذا النص المقدس و لغته.

فبدأت الجهود لصون هذا الكتاب المقدس  و جمعه منذ خلافة أبي بكر حيث دعا زيد بن ثابت و عدداً من الصحابة إلى ذلك، و كان هناك تردد من القيام بعمل كهذا، العمل الذي لم يسبق أن فعلوه في عهد الرسول(ص)، و استمرت الجهود حتى بلغت توحيد المصحف في عهد الخليفة عثمان بن عفان حين وصل الخلاف في قراءته حد تخطئة المسلمين بعضهم الآخر و تكفيره كما يذكر الطبري.[4]فقامت جماعة من صحابة النبي التي يرأسها زيد بن ثابت أيضاً، بتوحيد المصحف ثم نسخه في نسخ وُزّعت على الأمصار كمكة و البصرة و الكوفة و الشام و طُلب ممن يعلّمون القرآن أن يتخذوا هذه النسخة الموحّدة العثمانية أساساً لذلك.

و ينبغى أن أذكر هنا، أن رسم المصحف حتى نهاية عصر الخلفاء كان خالياً من أى نوع من العلامات ، سواء ما يخص بيان حركات أواخر الكلمات أو ما يميز الحروف المتشابهة في الرسم، مثل ح ،خ، ج، و كان خلو النص القرآني من هذه العلامات التي تساعد القارئ على القراءة الصحيحة، كان سبباً في وقوع الخلاف الذي يؤثر في معنى الآية بل قد يقلب معناها.

و بعد أن توحدت النصوص أصبحت الحاجة ملحة إلى خطوة أخرى لا تقل أهمية عن توحيده و هي إيجاد ضوابط تحفظ هذه النصوص من القراءة الملحونة. و المسلمون في هذه المرحلة لم يكونوا من العرب فقط و إنما كانوا من العرب و الأمم الأخرى.

فقام أبو الأسود الدئلي(ت 69هـ) بعمل جبّار ألا و هو إبداع نقط الإعراب للحيلولة دون وقوع اللحن في قراءة النص القرآني و من ثم في زمن الحجاج ، قام تلميذ أبي الأسود، نصربن عاصم (ت 89هـ) بوضع نقط الإعجام و كان هو أول من توصّل إلى طريقة الإعجام التي تتميز بها الحروف الهجائية بعضها من بعض ، فقد رتب الحروف جماعات و وضع كل حرف إلى جانب الحرف الذي يشبهه في الصورة،[5] و هو أيضاً غيّر الترتيب الأبجدي الذي هو ترتيب سرياني إلى الترتيب الأبتثي لضرورة إقتضتها محاولة إعجام الحروف و بقيت هكذا حتى عهد الخليل بن أحمد(ت175هـ).[6]

ففي ظني كل هذه الجهود و الإرهاصات على مدى قرن أو أكثر هي التي آلت بعلم النحو إلى مرحلة النضوج و لم يكن غريباً على أمّة ، كان الكلام و الشعر ديوان علومهم حتّى تحدّاهم الربّ في هذا الأمر، أن يصبح نحوهم متكاملاً رصيناً في مدة زمنية قصيرة كما يقول الدكتور مجتبايي(ص1)[7]، فلا قياس بين العرب و المسلمين من جهة و الإغريق و الهنود و السريان في هذا الصدد من جهة أخرى، كما يقوم الدكتور مجتبايي بهذه المقارنة و يبدي إستغرابه من هذا الأمر(ص:51).و في ردي على آراء الدكتور مجتبايي في هذه القضية أقتبس قول الدكتور مهدي المخزومي الذي يقول: ((و لو تتّبعنا تأريخ النحو لوجدناه يخطو خطوات طبيعية من البساطة إلى التعقيد و من النظرة إلى النظر العلمي ، فلم ينشأ مرة واحدة و لم ينسب إلى طبقة معينة ، و إنما تعاونت على تكميله أجيال كانوا مدفوعين أولاً بدافع ديني يهدف إلى حفظ القرآن من اللحن.))[8].

2

 

 

نشأة النحو العربي و الآثار الأجنبية

 

مرّت الإشارة في الحديث عن بداية نشأة النحو العربي أن مواقف الباحثين المحدثين العرب و المستشرقين من هذه القضية مختلفة و ربما متباينة، فمنهم من يرى أن هذا العلم نشأ و نبت في البيئة العربية كما تنبت الشجرة في بيئتها و ذلك لعدم وجود السند التاريخي الذي يخالف ذلك و منهم من يرى أن أصل النحو العربي كان بآثار أجنبية يونانية في الغالب . و منهم من وقف موقفاً وسطاً و ذهب إلى أن بداية هذا العلم كانت من إبداع العرب و حين ترجمت كتب الفلسفة اليونانية عن السريانية أخذ النحويون ما يتصل بالنحو منها كما يظهر ذلك في تقسيم الكلمة و القياس و العلة.

أما القدماء في رواياتهم فقد انقسموا إلى فئتين في ذلك، أحداهما ذهبت إلى أن هذا العلم عربي النشأة و قد رأينا أن الروايات في هذه القضية تدور في مجال القرآن الكريم و صونه من اللحن و الخطأ و أيضاً حول شعر العرب و نثرهم و كلامهم ، و الأخرى، قد ذهب إليها ابن فارس في كتابه ((الصاحبي)) هو أن علم العربية كان العرب يعرفونه قبل الإسلام و هو توقيف من الله مثل أصل اللغة و الخط و العروض.هذه المعارف كانت قديماً ثم أتت عليها الأيام و قلّت بين الناس و لما جاء أبوالأسود جدد العربية كما جدد الخليل علم العروض.[9]

الروايات التي أرخت لنشأة النحو لم تحدد مرحلته الأولى تحديداً واضحاً و  فيها الغموض و الخلاف و هذا الخلاف لم يكن في اللغة العربية فقط، و إنما كان في بداية نشأة علوم اللغة في لغات الأمم الأخرى أيضاً كما يصرح الدكتور مجتبايي (ص : 153-155). أيضاً ليس من المعقول أن يولد علم من العلوم متكاملاًمنذ اللحظة الأولى، فلا بد من مرحلة السذاجة وصولاً إلى التعقيد كما قدمنا ذكر ذلك ، فهذه المرحلة أى البداية لا يستهان بمعرفتها لأنها كانت الأساس الأول الذي بُنىَ عليه النحو العربي بعد ذلك، و على رأس هذه المرحلة كانت جهود أبي الأسود الدئلي و تلامذته التي تُوّجت بنقط الإعراب و الذي كان سبباً لفتح أبواب الدراسات النحوية بعد ذلك. هذه المرحلة من التفكير النحوي كانت نتاج المجتمع العربي و في إطار الحياة الإجتماعية و العلمية الجديدة و في ظل النص القرآني الذي كان بمثابة الحافز الأول و الأهم في هذه الحركة العظمى.

    فبعد المرحلة الأولى كانت المرحلة الثانية  و هي نشأة النحو في ملامحه الأولى و قد استخدم فيها القياس على ما سمع من كلام العرب و استقراء أساليب كلامهم وفي هذه المرحلة بدأ بن أبي إسحاق و تلامذته بتطبيق ظواهر القياس على شعر حكم عليه بمخالفته الشائع من كلام العرب.[10]

أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة نضج النحو و القضايا النحوية حتى أصبحت علماً مستقلاً و تبدأ هذه المرحلة مع الخليل بن أحمد الفراهيدي.

فنريد أن نعرف هنا في أى مرحلة كانت الآثار الأجنبية هذه و إلى أى مدى أثرت في نشأته و ظهوره.

 

أ‌.      الآثار الهندية

 

كان بين الثقافة العربية و الهندية صلات مباشرة حيناً عن طريق الجاليات الهندية أو ما ينقله التجار إذ كانت التجارة قائمة بين الهند و العرب و كما يقول الدكتور مجتبايي كان ميناء أبلة قرب البصرة يسمى ((فرج الهند)) أى بوابة الهند(ص:55)، و حيناً كانت هذه الصلات غير مباشرة كما هو شأن الكتّاب الأوائل كابن المقفع الذين نقلوا من الهنود بعض مصنفاتهم مثل كليلة و دمنة.و كل ذلك لا يتصل بموضوع النحو و الدراسات اللغوية في طورها الأول إلا حكاية ذكرها أحمد أمين في أولية النحو عند الهنود نقلاً عن البيروني[11] و استمسك بها الدكتور مجتبايي في خاتمة كتابه(ص:     154) فيكرر قول أحمد أمين القائل:  ((و أنا أخشى أن تكون حكاية أبي الأسود قد وضعت في العربية على نمط الحكاية الهندية))[12] و من ثم توغّل في الظن إلى أن قال هناك شبه بين ذهاب العالم الهندي إلى شيفا مصلياً مسبحاً و بين ذهاب أبي الأسود إلى علي بن أبي طالب (ع).

و في ظني هذا الربط بين الحكاية الهندية و عمل أبي الأسود و جهوده اللغوية و اختلاف الروايات العربية في وضع النحو لا يوحي بأى أثر و لا أى صلة في هذا الصدد. فظهور أى علم لا يتأثر بمثل هذه الحكايات و إنما تبدأ آثاره بإحساس المجتمع بالحاجة إليه لأسباب متشابكة توجب ظهوره فيبدأ بسيطاً ثم يتطور و ينضج كما سبق و أن قدمت ذكرها. و يمكن هنا أن أذكر ما قاله بروكلمان في هذا الصدد: ((و الرأى الذي يتكرر دوماً عند علماء العرب و هو أن علم النحو انبثق من العقلية العربية المحضة و بغض النظر عن الروابط بين اصطلاحات هذا العلم و منطق أرسطو و في ما عدا ذلك لا يمكن إثبات وجوه أخرى من التأثير الأجنبي لا من القواعد اللاتينية و لا من القواعد الهندية)).[13]

و في ردنا المقتضب على ما جاء في الفصل الثاني حول المحاكاة الصوتية بين الأصوات العربية و الأصوات الهندية يكفي أن أقتبس كذلك قول بروكلمان الذي يقول: ((و لا تأثير للهند أيضاً في علم أصوات العربية كما زعم vollers و إن وجدت بعض المشابهات العارضة إتفاقاً من طبيعة البحث. )).[14]

 

ب .الآثار الإغريقية

 

إذا أردنا أن نبحث عن الآثار اليونانية في نشأة النحو العربي ينبغي لنا أن نجيب أولاًعلى هذا السؤال : هل بين يدى الأوائل الذين فكروا في قضايا اللغة منذ أبي الأسود حتى ظهور النحو بشكل واضح في عهد ابن أبي اسحاق شىء من النصوص اليونانية؟

فإذا كان شىء من ذلك ، كان من الضروري أن ننظر في مدى هذه الآثار و إن لم يكن ذلك فليس هناك آثار مباشرة في هذه النشأة.

نعود مرة أخرى إلى التمييز بين هذه المرحلة من المراحل التي مر بها النحو العربي و هي مرحلة التفكير في النحو أى البداية و بين مرحلة النضج التي كانت فيها تبويب النحو و تعريفاته و قضاياه.أما هذه المرحلة التي عاشها أبوالأسود الدئلي و هي منتصف القرن الأول للهجرة فلم نجد بين الباحثين من يزعم أن هناك نصوصاً مترجمة لليونان في ما يتعلق باللغة من قريب أو بعيد - و نشاطر الدكتور مجتبايي الرأى في هذه القضية- و لم نجد من يزعم أن العلماء الذين اهتموا بقضايا اللغة و منهم أبي الأسود كانوا يعرفون اليونانية حتى يطلعوا على نصوصها في هذا المجال.

إن ترجمة أرسطو و هو أصل التأثير الإغريقي في النحو العربي لم تكن إلا بعد النصف الأول من القرن الثاني للهجرة و بالتحديد في عهد الرشيد[15]و بين هذه الفترة و بين أبي الأسود أكثر من قرن من الزمان .

و الذين ذهبوا إلى القول بالتأثير اليوناني في نشأة النحو العربي منذ أطواره الأولى لم يستندوا إلى أدلة تاريخية تثبت آرائهم و إنما بنوا رأيهم على ظن يتصل بتصورهم الساذج للعرب بأنهم قوم بداة ليس لهم من الفكر و الحضارة نصيب و أوائل من قال بهذا جماعة من المستشرقين . و ممن ذهب إلى هذا القول(دي لاسي أوليري) فهو حين ذكر انزعاج أبي الأسود لسماعه قراءة الآية ملحونة ۞أن الله بريء من المشركين و رسوله ۞[16] بخفض ((رسوله))، قال بدأ من فوره يضع القواعد لتلافي هذا الخطأ فأدخل الشكل على العربية التي لم تكن إلى ذلك الحين تعرف الشكل و النقط و بدأ يلقي دروساً في النحو و متن اللغة العربية و مما يذكر أنه كان في وضعه لهذه العلوم متأثرأً بمنطق أرسطو إلى حد ما و لكنه لم يتأثر بواحد من النحويين السريان)).[17]

و في ردنا على هذا الرأى علينا القول بـأن كتب أرسطو ترجمت في بداية العصر العباسي و في عصر الرشيد على وجه الخصوص،و قبل ذلك كانت الترجمة لكتب الرياضة و الطب و الفلك.[18]

إن القول بالآثار الإغريقية أو اللاتينية في الأطوار الأولى لعلم النحو عند العرب، لا يوجد عليه دليل و إنما من ذهب إليه إما ان يكون قد بنى حكمه على عصبية لا تخدم المنهج العلمي أو على افتراض دون أساس سليم .فالآثار الإغريقية ما كانت متوفرة في هذه المرحلة و إنما كانت بعد أن تهيأت النصوص المترجمة في مرحلة متأخرة عن هذه، و بالتحديد بدأت ترجمة هذه الآثار بعد النصف الأول من القرن الثاني للهجرة و هي مرحلة نضوج النحو العربي أى في عصر الخليل بن أحمد الفراهيدي.

3

 

 


 

ملاحظات

 

يسعى الدكتور مجتبايي من خلال كتابه هذا و الأنظار و الآراء المطروحة فيه أن يثبت تأثير النحو الهندي في النحو العربي و ذلك من خلال بعض المحاكاة الظاهرية في اللفظ و الدلالة و حتى من خلال التنقيب عن نسب النحاة الأوائل كالخليل بن أحمد ، و عمدة البحث تدور في فلك سيبويه الفارسي مؤلف أول كتاب في النحو العربي والذي كان من أهالي مدينة بيضاء في فارس، و اعتبره الكاتب همزة وصل بين النحوين الهندي و العربي، ففى هذا الفصل نريد أن ندرس بعض الآراء و الأنظار المطروحة في هذا الكتاب و نناقشها و إن كانت مناقشة هذه الأقوال و تفنيدها لا تتطلب كثير جهد لأن الوهن فيها باد.

 

1.أول ما لفت إنتباهي عند قرائتي لهذا الكتاب، هو النفى الصريح لتأثير النحو اليوناني أو الإغريقي في النحو العربي حيث ينفي الدكتور آراء الباحثين الغربيين و من حذى حذوهم في العالم الإسلامي جملة و تفصيلاً ، و يقول كلها مبنية على أساس محاكاة ظاهرية و سطحية و لا تستند إلى أى دليل(ص: 18) ، لكنه في الوقت نفسه و في سبيل إثبات فراضياته أيضا لا يستند إلى دليل فجل دلائله هي أيضاً ظاهرية و سطحية، و منها قضية الصيغة (108) و التصريف(109)والمعلوم و المجهول (ص: 119) والضمير(ص:127) و الإعراب و الإعجام (ص:129) و الإعراب (128)وأحرف العلة(ص:134)و الجامد و المشتق(133) فإذا كان ينفي الدكتور المشابهات تلك، فلابد من بطلان هذه المشابهات أيضاً.

 

2.يرى الدكتور مجتبايي أن الحدود الشرقية لإيران حتى حدود الصين  كانت موطئ قدم البوذيين الإيرانيين و مأواهم و هؤلاء هم الذين قاموا بنقل ميراثهم الفكري و الثقافي إلى الحضارة الجديدة(53،40،19) ، فهذا كلام لا يخلو من المبالغة، ولا دليل على كون البوذيين الإيرانيين هؤلاء كلهم كانوا يتقنون القراءة و الكتابة أو كلهم كانوا يحملون معهم العلوم السائدة هنالك، لأن الكاتب هو يصرح في مكان آخر(20) أن هناك أصلاً كان في العصر الساساني ينص على أن قراءة الكتب و التعليم كان وقفاً على شريحة خاصة من المجتمع الساساني آنذاك.فالتناقض في هذا الرأى باد.

 

3. و في حديث متصل حيث يذكر رواج النحو اليوناني في الأديرة النصرانية و مدارس أنطاكية و حران ،يقول الكاتب(41)ليس من المعلوم إلى أى مدى كان رواج ((النحو اليوناني الحي)) خارج الكنائس و المدارس النصرانية، و في الوقت نفسه  يستشهد بـ((قطعات)) من كتاب كاتنتره الشهير في النحو السنسكريتي الذي عثر عليه و آثار بوذية أخرى شرقي خراسان و يبني فراضيته على هذه القطعات (20) و يعتبرها دليلاً على رواج النحو الهندي في شرقي إيران. فلو فرضنا جدلاً صحة هذا الكلام ، لا نستطيع القول برواج هذه اللغة خارج المحافل الدينية فعلى سبيل المثال في وقتنا الراهن اللغة العربية هي لغة الدين لكننا حتى في الأوساط العلمية و المثقفة نجد كثيرين لا يتقنون هذه اللغة.

 

4.يركز الكاتب على ترجمة كتاب في الصرف و النحو السنسكريتي في عصر الملك سابور الأول و يبني فراضيته على هذا الخبر ليثبت معرفة الإيرانيين بالنحو السنسكريتي و يقول بقطع اليقين أن الغاية من وراء هذه الترجمة كانت مساعدة المزدائيين في فهم كتابهم الديني أفستا، لكى يحتذوا حذوه و يتخذوه مثالاً لتدوين قواعد اللغة الأفستائية(30)، و لا أدري من أين جاء هذا اليقين بلا أى وثيقة تاريخية تؤيد صحة هذا الخبر. و الملفت هنا أنه كيف استطاع قوم أن يصنع النحو لأمة أخرى و أن يصنف أثراً لم يسبقه إليه أحد من قبله في حين ما كانت قواعد الفارسية مدونة حتى وقتئذ و ماكان لدى الفرس كتاب مدون في النحو.[19]

 

5. كثيراً ما يشيد الكاتب بدور الأعاجم و الموالي و بالأحرى الإيرانيين منهم و ماكانوا يتمتعون به من دهاء و ذكاء و يتطرق إلى ذكر سيبويه و أن لا ريب في نسبه و من ثم يعقبه بكلام قريب من يقين حول الخليل بن أحمد الفراهيدي و أن أصله كان من الفرس و كان جده من الذين فتحوا بلاد اليمن في عصر أنوشروان الملك الساساني، و في هذا المقام لا بد من ملاحظات:أولاً في الخليل:

1-5. الخليل بن أحمد الفراهيدي ولد سنة 100للهجرة و توفي سنة 170هـ أو 175هـ ، هذا الرجل مع عظمته و ما تركه من علوم كالنحو و العروض ، يلف الغموض حياته فلا يعرف كيف ولد و كيف نشأ و كيف ترعرع حتى بلغ هذه الدرجة من العبقرية و كما يقول الدكتور مهدي المخزومي في هذا الصدد: ((أكبر الظن أن هناك عوامل اصطلحت على الخليل فحدّت من شهرته و وقوف الناس على دقايق حياته، و من هذه العوامل ما يتصل بالسياسة و منها، ما يتصل بالمجتمع ،أما الأولى فهي الخارجية التي نشأ عليها و الخوارج كانوا يومئذ من العناصر المناوئة للسياسة القائمة ، و قد اضطهدها الحكم القائم و تجنبها الناس المالئون له.))[20]

 

2-5. يزعم الدكتور(62-63) و استناداً إلى أقوال نقلها ياقوت في ترجمة الخليل عن حمزة الإصفهاني أن الخليل من أصول فارسية و تبدل هذا الأمر في هذا الكتاب إلى وثيقة يركز عليها الكاتب لإثبات علاقة الأطوار الأولى من النحو العربي بالموالي و الإيرانيين.[21]و كما يقول جابري زاده في المكان نفسه : أولاً علاقة الخليل النسبية بقوم هاجروا قبل قرن إلى اليمن لا يقوي احتمال معرفته باللغة الفارسية و لم ينقل عن الخليل كلام يدل على معرفته باللغة الفارسية غير جملة نقلت عنه حيث يقول: ((إذا نسخ كتاب ثلاث مرات و لم يُقابل إنقلب بالفارسية[22])) و الذي نظن أن من قال هذا الكلام لا يعرف من الفارسية شيئاً.

 

3-5حمزة الإصفهاني هذا الذي يستند بكلامه الدكتور(الهامش الثاني ص:62)، كان متهماً بالشعوبية و ذلك من خلال كتابه الموازنة بين العربية و العجمية و الطريف في ذلك أن بلغت به العصبية و الشعوبية حداً يزعم أن العرب من أصول فارسية ، فيقول الدكتور جواد علي: ((يزعم حمزة الإصفهاني أن العرب هم من أولاد تاج بن فروان بن سيامك بن متى بن كيومرث و هو جد العرب))[23] فبالطبع لا نستطيع أن نرضخ لرأى يتخذ من كلام الإصفهاني أساساً لما يدعيه.

 

4-5يقول الدكتور مجتبايي في الفصل الثاني من الكتاب أن الخليل بن أحمد تغافل الهمزة و لم يضعها في عداد حروف الحلق و تأسيساً على هذا بدأ معجمه بالعين، لكن سيبويه و نظراً لعلاقته – الغامضة و المجهولة- بالنحو السنسكريتي استدرك زلة استاذه الخليل في باب الإدغام من كتابه و أثبت الهمزة، ففي ردنا على هذا الكلام نكرر قول المخزومي: (( فلما أراد الخليل أن يضع معجماً يتضمن كلام العرب رتّبه بحسب الحروف و بدأ عمله بتذوقها و النظر فيها ،فهداه هذا الترتيب إلى ترتيب جديد لم يشأ فيه أن يجعل الهمزة أولى الحروف كما كان شأنها في الترتيب الأبجدي القديم و في ترتيب نصر بن عاصم ، لأنها في نظره معتلة لا يصح الإعتماد عليها و لأنها مهتوتة مضغوطة إذا رفه عنها لانت فتحولت ألى ياء أو واو أو ألف[24])) فلم يكن هناك لا خطأ و لا تغافل. و الأنظار اللغوية الحديثة لم تؤيد لا رأى الخليل و لا رأى سيبويه ،فاللغويون المحدثون يعتبرون الهمزة حرفاً لسانياً ينطق من فتحة المزمار.[25]

 

5-5. يتحدث الكاتب في عدة أماكن من الكتاب حول معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي و صحة إنتسابه إليه و يركز فيه على تلميذه الليث بن مظفر و العنصر الجغرافي أى خراسان التي كانت تعتبر آنذاك بوابة للهند (ص:54و55) و يكرر الكاتب هناك قول جان هي وود في كتابه كتابة المعاجم بالعربية و يقول من الممكن أن يكون الخليل قد تعرف على الترتيب الهندي في خراسان لأن سكانها كانوا من البوذيين و كانت العلوم الهندية تدرس في مدرسة جنديسابور. و في ردنا على هذا الكلام لا بد أن نقول: لم يكن سبب ذهاب الخليل إلى خراسان واضحاً و بالطبع لا نستطيع القطع باليقين و نقول أنه ذهب إلى خراسان لكى يتعرف على علوم البوذيين و ترتيبهم، و كما يقول المخزومي: ((أظن أن الذي دعاه إلى الذهاب إليها[خراسان] هو الذي دعا تلميذه النضر بن شميل من بعده، فقد ضاقت الحياة بالنضر و قل ما في يده فاعتزم الخروج إلى خراسان.))[26]و هذا ناهيك عن الروايات التي تقول أن الخليل توفي في البصرة. [27]

 

6-5. كل العلوم التي وضعها الخليل بن أحمد و صلت إلينا عن طريق تلامذته و في هذا الصدد يقول الدكتور مخزومي: ((فنحوه لم يصل إلينا إلا عن طريق سيبويه و كتابه، و أقواله في اللغة و الأصوات لم تصل إلينا إلا عن طريق تلميذه الليث بن المظفر، و عروضه لم يصل إلينا إلا عن طريق الأخفش. هذه الجوانب الثلاثة من حياة الخليل العلمية لم تصل إلينا في كتب صنفها هو و إنما أملاها على تلاميذه الذين نقلوها عنه بأمانة و إخلاص.))[28] و واضح من هذا الكلام ،دور تلاميذ الخليل في نشر علومه و المعروف أن الخليل لم يكن من الذين يتكسبون بالعلوم و المعارف حتى و إن كانت فيه خصاصة و الدليل على ذلك هو قول تلميذه النضر بن شميل حيث قال: أكلت الدنيا بعلم الخليل و هو في خص لا يشعر به[29]،و أقام بالبصرة لا يقدر على فلسين و علمه قد إنتشر و كسب به أصحابه الأموال.[30]و لا أدري لماذا لم ينسب الدكتور مجتبايي علم العروض إلى الموالي و بالأحرى إلى الأخفش، فكما وصل إلينا النحو و أقواله في الأصوات عن طريق تلامذته بلغنا العروض أيضاً عن طريق تلميذه الأخفش.

و نذكر هنا ملاحظات حول سيبويه و حياته و  دوره في النحو:

7-5.فقد جاء حول نشأة سيبويه و حياته كلاماً شبه متواتر في المصادر التاريخية  فمثلاً جاء في  سير أعلام النبلاء: ((إمام النحو حجة العرب أبوبشر عمرو بن عثمان بنن قنبر الفارسي ثم البصري و قد طلب الفقه و الحديث مدة ثم أقبل على العربية فبرع و ساد أهل العصر.))[31]و أنه قدم أيام الرشيد إلى العراق و هوابن اثنتين و ثلاثين سنة و توفي و له نيف و اربعون سنة بفارس،[32]و كان أصله من بيضاء فارس ،[33] و منهم من قال إن مولده و مسقط رأسه كان بالأهواز[34] و توفى هناك أيضاً[35] و منهم من قال أنه طلب الآثار و الفقه ثم صحب الخليل و برع في النحو و هو مولى بني الحارث بن كعب و يكنى أيضاً أبا الحسن،[36] و جاء في طبقات الحنفية أنه أدركته حرف الأدب و أحوجته الحاجة إلى الإرتزاق بالفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان[37]، فكما نرى معظم الروايات تقول أنه قدم البصرة أيام الرشيد و كان قد صحب الفقهاء و أهل الحديث و قد وردت رواية تذكر بتفصيل أنه كان يصحب الفقهاء و أهل الحديث ثم للحن ورد في كلامه اعتزل عن الفقهاء و لزم الخليل،و تقول الرواية: عن محمد بن جعفر التميمي قال: ((كان سيبويه أولاً يصحب الفقهاء و أهل الحديث و كان يستملي على حماد بن سلمة، فاستملى يوماً قوله صلى الله عليه و سلم : و ليس من اصحابي إلا من لو شئت لأخذت عليه ليس أبا الدرداء فقال سيبويه أبوالدرداء و ظنه إسم ليس فلحنه فأنف من ذلك و لازم الخليل و كان من بيضاء شيراز و نشأ بالبصرة))[38]و قصارى القول، في ظني أنه لا يستطيع من كان يلحن مثل هذا اللحن أن يأتي بكتاب من تلقاء نفسه كتاب أصبح أهم كتاب في النحو العربي و لا بد أن نبحث عن مصدر آخر للأقوال و الآراء التي أوردها في الكتاب و لم يذكر مصادرها.

 

8-5.يركز الكاتب في أماكن عدة على الأصل و الأرومة في نشأة النحو و أن معظم النحاة  الأوائل كانوا من الموالى و العجم، و في ردنا على هذه الأقوال ينبغي أن نقول، صحيح أن هؤلاء كانوا عجماً لكنهم تربوا في بيئة عربية و استقوا آرائهم من تلك البيئة لأن الإنسان إبن البيئة وكما قيل: كان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي و ... و كلهم عجم في أنسابهم و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب،[39] فقصارى القول لا تنتقل علوم كالنحو و العروض و... بالجينات و الأرومات.

9-5.و في حديث متصل و من خلال بحثي حول حياة سيبويه توصلت إلى انه لم يذكر أحد أن سيبويه الذي كان من أهالى بيضاء فارس، كان قد سافر إلى مكان غير العراق مثل خراسان، كذلك كما يقول الدكتور شوقي ضيف: ((لم تذكر كتب التراجم أنه رحل إلى البادية في طلب اللغة و السماع عن العرب و مشافهتهم))[40] أيضاً يقول بروكلمان : ((و روي أن سيبويه كان بادي العى في لغة الخطاب فلم يكد يسيطر على العربية في حديثه العادي، و ليس فقط في مشاكل مادته التي تخصص فيها ، و كثيراً ما يلاحظ قارئ كتابه أيضاً قلة حيلته و ظهور عجزه بل غموضه و إبهامه في التعبير))[41] فنستطيع أن نستنتج بأن ما جاء في الكتاب لم يكن من جهود سيبويه فحسب أو بالأحرى أنه لم يتحمل عناء المشافهة و سماع كلام العرب كما كانت الطريقة المعتمدة عند النحاة في استقراء كلام العرب و تقعيد أساليب كلامهم.

 

10-5.يقول الكاتب :(ص:55) سيبويه الذي كان دوماً ينقل آراء الخليل في الأبواب السبعة الأولى من الكتاب، نجده لا يتطرق إلى ذكر الخليل في باب الإدغام، و يتخذ من هذا الكلام منطلقاً ليقول إن الآراء المطروحة في باب الإدغام ليست من الخليل بل قام سيبويه بدراسة الأصوات بمفرده و لم ينقل عن الخليل. وفي كلام يناقض الكلام الذي سبق ،يقول الكاتب نفسه في مكان آخر(ص:19) أن عادة تأريخ الحوادث ما كانت متبعة في هذا الجانب من العالم و عادة لم يذكر أحد مصدر معلوماته و مسموعاته. في ردنا على القول الأول نقتبس قول المخزومي في هذا الصدد: ((و سيبويه و قد خلف ورائه كتاباً هو الأول من نوعه في هذا العلم ، و عامة الحكاية فيه عن الخليل ، بل لا نتعدى الصواب إذا قلنا أن الخليل هو مرجع كتابه و أن ما صرح به من نقول عن الخليل إنما هو لوضع أسس الأبواب التي يبحث فيها و لا نتعدى الصواب إذا ذهبنا إلى أن كثيراً من نحو الخليل دوّن في الكتاب دون أن يشير سيبويه إلى أنه من رأى الخليل و قوله، كما كان في باب الإدغام فقد سبقت للخليل في غير هذا الباب أقول نقلها سيبويه فلما جاء إلى باب الإدغام سكت عن أن يشير إلى أنها من قول الخليل و مذهبه و لعله كان يعتمد على هذه النقول التي ذكرها في فصول سابقة و معرفة القارئ بها. ))[42] فهذا الرأى أقرب إلى الصواب مما ذكره الكاتب من نفى تام لآراء الخليل في باب الإدغام.و يذكر سيبويه في باب الإدغام ((قالت العرب)) و إذا أخذنا بالرأى القائل أن سيبويه لم يذهب إلى البوادي لمشافهة كلام العرب[43] فكيف يقول قالت العرب؟، لكنه هناك أقوال تقول بأن سيبويه كان مشافهاً للعرب و أنه أخذ اللغة عنهم.

 

11-5.هناك آراء حول كتاب سيبويه و مضمونه و الآراء المطروحة فيه، نستعرض أهمها:يقول المخزومي : لقد حذا سيبويه حذوه[الخليل] و وصل إلى أشياء جديدة أثبتها في كتابه في الأبواب التي عقدها للمصادر ، و لكنها لا تتعدى أن تكون فروعاً و جزئيات تتصل بالمبدأ العام الذي قرره الخليل،[44] و قال آخرون إجتمع على صنعة كتاب سيبويه إثنان و أربعون إنساناً منهم سيبويه و الأصول و المسائل للخليل،[45]و قد قال ثعلب أنه لم ينفرد بتصنيفه بل ساعده جماعة في تصنيفه نحواً من أربعين نفساً و هو أحدهم و هو أصول الخليل فادّعاه سيبويه إلى نفسه،[46]و ينقل الدكتور علي الوردي أقوالاً عن الزبيدي ثبت فيها أن كلام سيبويه هو من أقوال الخليل[47]. وأما هناك رواية تؤيد ما قد ذكر ، فقد قيل لـ يونس بن حبيب يوماً: (( إن سيبويه ألف كتاباً من ألف ورقة في علم الخليل،فقال يونس : و متى سمع سيبويه من الخليل كل هذا ؟ جيئوني بكتابه ، فلما نظر في كتابه و رأى كل ما حكى قال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل فيما حكاه كما صدق فيما حكى عني))[48]، و كما يذكر المخزومي : قد تردد اسم يونس في ثمانين و مائة موضع من كتابه و ربما أورد ليونس فصلاً كاملاً...و مع كثرة ما رواه عن يونس فإن ما رواه عن الخليل أكثر كثيراً، فقد تردد اسم الخليل في اثنين و ثلاثين و ثلاث مائة موضع ،عدا ما كان يرويه عنه بقوله: سألته أو زعم أو قال أو يقول،[49] كذلك يقول القسطنطيني : و جميع حكايته عن الخليل حيثما قال سألته أو أطلق اللفظ أراد الخليل لأنه أستاذه.[50]فباستطاعتنا التوصل إلى رأى من خلال هذه الأقوال و هو مدى تأثير أساتذة سيبويه في كتابه و حجم النقولات الصريحة و غير الصريحة في كتابه وكيفية ذكر مصادر آراءه.

 

6.يذكر الكاتب (ص31) أن الموالي الإيرانيين سعو أن يستنبطوا أحكام اللغة العربية كما هي في القرآن الكريم، لكننا نجد هناك خلافات كثيرة في النحو السيبويهي و ما جاء في القرآن الكريم  فمثلاً هناك رواية تقول: دار كلام بين إبن تيمية و أبوحيان في سيبويه ... و يقال إن ابن تيمية قال لأبي حيان ما كان  سيبويه نبي النحو و ما كان معصوماً بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعاً ما تفهمها أنت.[51]كذلك ينقل الدكتور علي الوردي عن الدكتور أنيس قوله: إن قراءات القرآن المعروفة تشتمل على كثير من المخالفات التي جاء بها النحاة أما قراءة قريش المفروض أنها أقل لحناً من غيرها فهي لا تخلو من أخطاء نحوية أيضاً،[52] و نحن نرى الكاتب زكريا أوزون في مواطن كثيرة من كتابه يسرد المخالفات النحوية السيبويهية سرداً مخالفات النحو السيبويهي مع ما جاء في الذكر الحكيم (31،47،49،65،67،71،74،75،81،90،93و...)،[53]و إن كانت هذه المخالفات قليلة جداً و القليل شاذ و الشاذ لا يقاس عليه لكن مهما كانت فهي مخالفات لقواعد القرآن.

 

7.يقول الكاتب(ص128) تعني كلمة الإعراب لغةً، الإبانة و التمييز و يستشهد بكتاب سيبويه ، و قد عملت إحصاء لكلمة الإعراب و (إعراب) الواردة في الكتاب و قد ذكرت هذه الكلمة 96 مرة و معظمها كانت مصاحبة لكلمة حرف ((حرف الإعراب)) و لم أجد لمعنى ((التمييز)) الذي ذكره الكاتب لا في الكتاب و لا في أمهات الكتب النحوية شاهداً أو تعريفاً يثبت صدق مدعاه. نحن نعلم أن الإعراب يعني البيان و عمله هو التمييز بين الفاعل و المفعول و المجرور و ... لكننا نجد الكاتب يتخذ من عمل الإعراب أساساً ليثبت محاكاة كلمة الإعراب و الدلالة اللغوية لكلمة ((ويبهكتي))(vibhakti)السنسكريتية التي تطلق على اللواحق المبيّنة لحالات الإسم و يقول هذه الكلمة بمعنى التمييز، و یستنتج أن كلمة الإعراب تشبه كلمة ويبهكتي في السنسكريتية. فهو يقارن عمل الإعراب بمعنى كلمة ويبهكتي فهذا قياس مع الفارق وهذه مغالطة ليس إلا.

 

8.يقول الكاتب (ص107)تقسّم الكلمة في النحو العربي إلى ثلاثة أقسام: إسم و فعل و حرف و من ثم يقول تقسم الكلمة في النحو السنسكريتي إلى أربعة أقسام و هي الإسم(=nāmaالإسم) و الفعل (kriyā=العمل أو ākhyāta=الخبر)  و الحرف العامل(upasarga=الإضفاء،إضافةشىء) و الحرف غير العامل(nipāta= إعتباطي،فرعي) و يضيف قائلاً :هذه الأقسام الأربعة إنما هي الأقسام الثلاثة التي جاءت في النحو العربي إلا أن الحرف هنا إنقسم إلى عامل و غير عامل، فنحن نرى هنا أن تقسيم الكلمة في النحو العربي لا يشبه التقسيم السنسكريتي لا عدداً و لا دلالة و إن حاول الكاتب أن يبرر تقسيم الحرف إلى عامل و غير عامل و اعتبارهما قسماً واحداً فالدلالة تبين لنا مدى المفارقة القائمة بين هذين التقسيمين.

 

9.يقول الكاتب (104و 105)أن ((فَعَلَ)) (ف-ع- ل)و مزيداتها و مشتقاتها في اللغة العربية تعتبر ميزاناً و مقياساً لتصريف الأسماء و الأفعال و تأسيساً على هذا نجد العرب تبني مختلف صيغها من هذه المادة مثل الفاعل و المفعول و المفاعلة و الإستفعال و... و يضيف وإن كانت اللغة السنسكريتية تختلف كأخواتها من اللغات الآرية مع اللغة العربية إختلافاً جذرياً من حيث البنى الصرفية و أصول الإشتقاق لكن بدليل اطلاق الهنود لفظ (كريا/kriyā)((فعل)) على كل لفظ يدل على فعل أو عمل (العمل المقيد بزمن) نستطيع القول بتأثير النحو الهندي في هذه القضية، و في ردنا على هذا الكلام لا بد أن نقول بأن كلمة ((فَعَلَ)) في قواعد اللغة العربية هي بمثابة ميزان و مقياس فحسب و تختلف مع فِعْل (فَعَلَ) التي هي بمعنى عمل عملاً، و تتصرف إلى صيغ مختلفة ، فـ(فَعَلَ) في قواعد النحو و الصرف لا تعني شيئاً من حيث الدلالة و هي كسائر الأوزان مثل إفعوعل و فعلل و إفعنلل و ... مجرد ميزان لا تدل على العمل المقيد بزمن.

 

10.يقول الكاتب(ص127)إن نحاة السنسكريتية يسمون الضمير  sarvanāma أى ((إسم الجميع)) أو ((الإسم الجماعي)) و نظراً لهذا لا يدل الضمير على شىء او شخص محدد ،و عندما يقوم بمقارنة النحوين الهندي و العربي يستشهد بكلام سيبويه و يقول جاء في الكتاب و في الحديث عن المبهمات و الضمائر: ( ((ذاك))... إنما هو إسم مبهم تقع على كل شىء) و (هذه الأسماء لما كانت مبهمة تقع على كل شىء)و يقول جملة (تقع على كل شىء) هي شبه ترجمة من مصطلح sarvanāma السنسکریتی. في ردنا على هذا الرأى ينبغي أن نذكر أولاً:أن الضمير في العربية على عكس ما يزعمه الكاتب ، يدل على شىء أو شخص محدد فلا يوجد في اللغة العربية ضمير عام بل كل الضمائر هي ضمائر خاصة فمثلاً ضمير ((هن)) يدل على الغائبات وضمير ((أنتم)) يدل على المخاطبينَ. ثانياً: ما يستشهد به الكاتب أى ((ذاك)) يسمى في العربية إسم إشارة و ليس ضمير إشارة كما يقول الكاتب.ثالثاً: وردت العبارة الأولى في كتاب سيبويه في باب ((هذا باب الأفعال التي تستعمل و تلغى)) و الثانية في باب((هذا باب ما لا يجوز فيه الإضمار من حروف الجر )) و يدور الكلام في البابين حول عدم أمكان الحاق الضمير بـ((ذاك)) أى لا يجوز أن تقول ((ذاكه)) و الكلام المنقول أى (اسم مبهم تقع على كل شىء) و( كانت مبهمة تقع على كل شىء) ، كله يرجع لكلمة ((ذاك)) و أنها مبهمة و لا يجوز الحاق الضمير بها،رابعاً :يذكر سيبويه هذا المثال لتبيين حالات فعل ((ظن)) و ليس كما يزعم الكاتب في الحديث عن المبهمات و الضمائر،خامساً: لا يعتبر الضمير في العربية من المبهمات بل يقول البعض أن الضمير أعرف المعارف كما قال ابوالبركات الأنباري : ((فذهب بعض النحويين إلى أن الإسم المضمر أعرف المعارف ثم الإسم العلم ثم الإسم المبهم))،[54] فقصارى لقول أن ما ذكره الكاتب حول الضمير لا علاقة له بالضمير لا من قريب و لا من بعيد.

 

11.يقول الكاتب(ص111) أن الفعل في اللغة العربية يعرف بصيغته الغائبة كـ((كَتَبَ)) و ((ضَرَبَ))و...، وفي اللغة السنسكريتية كذلك يعرف الفعل بصيغته الغائبة مثل baharati (يأخذ) و vadati (يقول)،لكن في اللغتين اليونانية و اللاتينية يعرف الفعل بصيغة التكلم، وفي ردنا على هذا الرأى نقول: يعرف الفعل العربي بصيغته الغائبة من فعل الماضي و الأمثلة التي جاء بها الكاتب هي من الفعل المضارع، فالقياس في هذه القضية أيضاً باطل.

 

12.يذكر الكاتب (ص110) عادة ما يبدأ تصريف الفعل في كتب الصرف و النحو العربيين، بصيغ الغيبة و ينتهي بصيغ التكلم. و كذلك الحال في كتب الصرف و النحو السنسكريتيين، أى يبدأ تصريف الفعل بالغيبة الذي يعتبر هنا الشخص الأول[الشخص الأول في الفارسية يعني التكلم][55] (prathamapuruṣa) ثم الخطاب ((الشخص المتوسط))(madhyama puruṣa) و أخيراً التكلم ((الشخص الأخير))(uttama puruṣa). لكن الترتيب المتداول في كتب النحو اليونانية و اللاتينية يخالف هذا و يبدأ بالتكلم و ينتهي بالغيبة.نحن نشاطر الكاتب الرأى في الشطر الأول من كلامه أن صيغ الأفعال في العربية تبدأ بالغيبة و تنتهي بالتكلم ، لكن ينبغي أن نذكر أن الترتيب الأقدم لصيغ الفعل العربي يوافق الترتيب اليوناني أو اللاتيني و بالأحرى هو أقدم منه بكثير، فنرى هذا الترتيب المخالف للترتيب الموجود في اللغة الأكّدية التي يعود تاريخها إلى تأسيس الدولة الأكّدية في النصف الثاني من القرن الرابع و العشرين قبل الميلاد (حدود 2371ق.م) حيث سميت لغتهم باللغة الأكّدية: لِشان أَكّدي liŠān akkadî[56]، هذه اللغة التي تعد اللغة العربية القديمة(اللغة الجَزرية) ، فيقول الدكتور عامر سليمان : ((يختلف تصريف الفعل في اللغات الجزرية[العربية القديمة] عامة إختلافاً كبيراً عما هو عليه في اللغات الهندية-الأروبية.))[57] و في مكان آخر يأتي بتصريف الأفعال في اللغة الأكّدية[58] و هي كالتالي:

و هنا نرى اختلاف الترتيب عما هو الآن ، فلا بد من تأثير او تأثر في هذا الترتيب حتى يصبح ترتيب الصيغ من الغيبة و ينتهي بالتكلم و نسجل هذا الرأى للكاتب.

 

13. في هذا القسم من الدراسة نذكر الزلّات أو الأخطاء التي ارتكبها الكاتب في هذا الكتاب و هي:

1-13.يستشهد الدكتور مجتبايي (ص117) في تعريف الإسم ، بقول من الزجاجي في الإيضاح : ((و قال آخرون: الإسم ما دل على مسمى، و هذا وصف له لا حدّ)) و يذكر في الهامش الرابع أن هذا القول جاء في الصفحة(50)من الإيضاح، و لم أجد هذه العبارة لا في الصفحة نفسها و لاقبل و لا بعد.

 

2-13. يستشهد الكاتب (ص 134) في تعريف حروف العلة بقول من الأزهري في تهذيب اللغة ترجمه إلى الفارسية و هذا هو النص العربي:

((و إعتلالها ، تغييرها من حال إلى حال و دخول بعضها على بعض، و استخلاف بعضها من بعض)).[59]

و في الترجمة الفارسية يترجم كلمة استخلاف إلى اختلاف و هذا خطأ فادح.

 

3-13.يقول الكاتب (ص110) يبدأ ترتيب الصيغ في اللغة السنسكريتية بالغائب الذي يسمّى هنا (أول شخص)و أول شخص في الفارسية يطلق على صيغ التكلم فهذه زلة، و نراه يذكر المخاطب لاحقاً فيصبح كلامه كلآتي تبدأ الصيغ بالتكلم ثم الخطاب ثم التكلم، فهذه زلة بينة.

 

4-13.ينقل الكاتب في الصفحة (125) أقوالاً عن سيبويه و يذكر أمثلة سيبويه، وهي فذَهَب و سمع و نَكُثَ و... و قد وردت هذه الكلمة في كتاب سيبويه كالتالي(مَكُثَ)[60] و ليس نَكُثَ.

 

5-13.هناك بعض الملاحظات حول الكلمات السنسكريتية و ضبطها في هذا الكتاب، ذكرها حسن رضائي باغ بيدي في مجلة نامه فرهنگستان[61] نذكرها هنا:

جاءت كلمة ايْوَك بدلاً من إِوَك (ص70)،Aṣtādhyāyī بدلاً من Aṣṭādhyāyī(ص46)، Pāniniبدلاً من  pāṇini(ص 46و83)، vyākarana بدلاً من vyākaraṇa(ص57)، vedānga بدلاً من vedāñga (ص72)، rupa بدلاً من rŪpa (ص109)،rupyakāra بدلاً من rŪpyakāra(ص109)، - phero/fero- بدلاً من pherō/ferō (ص111)، bhuta بدلاً من bhŪta(ص124)، anc- بدلاً من añc- (ص141)، anvanc بدلاً من anvañc (ص141و175)، ṣaṣthi بدلاً من ṣaṣthī (ص142)، jnāna- بدلاً من –jñāna (ص152) و ... .

فضلاً عن هذا ينبغي أن يأتي بدلاً من ((في مصدر  yaz-))(ص49)((في جذر yaz-))؛ كذلك في الصفحة 135ينبغي أن يذكر ((من مصدرvac- )) بدلاًمن((من مصدر yaj-))و...[62]

 

خاتمة

فبعد كل ما ذكرناه من آراء و أنظار في نشأة النحو العربي و ما جاء في الخليل بن أحمد و تلميذه سيبويه، لا يستطيع الباحث أن يقطع في حكم ما دامت الأدلة التاريخية غير متوفرة بين يديه إلا أن البحث عن الحقيقة واسع السبل.

إن مرحلة التفكير النحوي و الإرهاصات النحوية عند العرب كانت نابعة من ظروف إجتماعية و لغوية فرضها التطور الحضاري لديهم منذ بزوغ نجم الإسلام و بذل الجهود للمحافظة على القرآن و لسانه العربي، و في هذه المرحلة لا نستطيع أن نثبت آثاراً أجنبية مباشرة كانت أو غير مباشرة في الجهود اللغوية التي ظهرت آنذاك، لأنها كانت منسجمة و التطور الحاصل في حياة العرب و لسانهم.

أما قضية الآثار الأجنبية في نشأة علم النحو فالغموض الذي يلف هذه المرحلة لعدم وجود المصادر الكافية للحكم، يجعلنا لا نقطع بالحكم ، و دراسة هذه الآثار تدور حول مرحلة نضج النحو في عهد سيبويه-كما هو موضوع هذا الكتاب- و من بعده و المصطلحات التي جاء بها سيبويه و شاعت من بعده و نحن في هذا الصدد مع بروكلمان في قوله: ((و الرأى الذي يتكرر دوماً عند علماء العرب و هو أن علم النحو انبثق من العقلية العربية المحضة ، و بغض النظر عن الروابط بين اصطلاحات هذا العلم و منطق أرسطو و فيما عدا ذلك لا يمكن إثبات وجوه أخرى من التأثير الأجنبي لا من القواعد اللاتينية و لا من القواعد الهندية أما اشتراك الفرس في تكوين علم العربية فمن الدلائل البارزة عليه استعمال إسم الإشارة في اللغة الفارسية الوسطى(البهلوية) ... و قد بقى هذا الإستعمال إلى اليوم))[63].

و قصارى القول كما يقول ديبور ،إن علم النحو العربي ((أثر رائع من آثار العقل العربي بما له من دقة في الملاحظة و من نشاط في جمع ما تفرق، هو أثر يرغم الناظر فيه على التقدير له...))[64].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] النحوين الهندي و العربي،الدكتور مجتبايي، طهران،2005م.منشورات نشر كارنامه.

[2] تفسير الطبري،1/10.

[3] النشر في القراءات العشر، إبن الجزري،1/8و19، و هو قول الرسول(ص) : ((أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه)).

[4] تاريخ الطبري،حوادث سنة 30 للهجرة،ص:328.

[5] وفيات الأعيان،2/32.

[6] الخليل بن أحمد الفراهيدي، مهدي المخزومي،ص:21.

[7] الأرقام المذكورة بين القوسين هي إرجاع إلى صفحات الأصل الفارسي للكتاب .

[8] الخليل بن أحمد،المرجع السابق،ص: 71.

[9] دراسات في المذاهب النحوية،زهير غازي زاهد،ص:62.

[10] المرجع نفسه،ص:63.

[11]ما للهند من مقولة مقبولة، البيروني،ص:13؛ ضحى الإسلام،أحمد امين،1/245.

[12] أحمد امين، المكان نفسه.

[13] تأريخ الأدب العربي،2/124.

[14] المرجع نفسه،2/124،الهامش رقم 5.

[15] علوم اليونان و سبل انتقالها إلى العرب، اوليري،ص: 217.

[16] التوبة/3.

[17] المرجع السابق،ص:199.

[18]اوليري،المرجع السابق:209-219.

[19] ملاحظاتي در نحو عربي، عبدالأمير جابري زاده، دورية كتاب ماه أدبيات،العدد الثاني،مايو/حزيران 2007،ص:63.

[20] الخليل بن أحمد الفراهيدي،مهدي المخزومي،ص:43.

[21] ملاحظاتي درنحو عربي، جابري زاده، ص:67.

[22] ياقوت،1993،3/1268.

[23] تاريخ العرب قبل الإسلام ، 1/11.

[24] سر صناعة الإعراب، ابن جني،باب أسماء الحروف.

[25] الخليل بن أحمد الفراهيدي، مهدي المخزومي،ص:100.

[26] الخليل بن أحمد الفراهيدي،مهدي المخزومي،ص: 45.

[27] وفيات الأعيان، إبن خلكان،2/248.

[28] مهدي المخزومي،المرجع السابق،ص:51.

[29] نزهة الالباء،ص:59؛ معجم الأدباء،11/72.

[30] وفيات الأعيان،1/243.

[31] 8/351.

[32] ابن النديم،الفهرست،1/76.

[33] أبجد العلوم،3/3.

[34] مقدمة كتاب سيبويه، تحقيق عبدالسلام محمد هارون،ص:7

[35] المرجع نفسه،ص:18

[36] شذرات الذهب،1/252؛تاريخ بغداد،12/195.

[37] 1/254.

[38] البلغة،1/163؛نفح الطيب،4/85.

[39] أبجد العلوم،1/230؛ مقدمة ابن خلدون،1/563.

[40] المدارس النحوية،ص:58.

[41] تاريخ الأدب العربي،2/135.

[42] الخليل بن أحمد الفراهيدي،ص:36.

[43] المدارس النحوية،شوقي ضيف،ص:58

[44] الخليل بن أحمد الفراهيدي،ص:89.

[45] الفهرست،1/76؛نفح الطيب،4/84.

[46] البداية و النهاية،10/176.

[47] أسطورة الأدب الرفيع،علي الوردي،ص:174.

[48] نزهة الألباء،ص:73؛أخبار النحويين البصريين،ص:48.

[49] الخليل بن أحمد الفراهيدي،ص:219و220.

[50] كشف الظنون،2/1427.

[51] الدرر الكامنة،1/78و6/64؛نفح الطيب،2/1055.

[52] أسطورة الأدب الرفيع،علي الوردي،ص 156و157.

[53] جناية سيبويه الرفض التام لما في النحو من أوهام.

[54] أسرارالعربية،1/301.

[55] سيأتي ذكره لاحقاً.

[56] اللغة الأكّدية،عامر سليمان،ص:6.

[57] المرجع نفسه،ص:247.

[58] المرجع نفسه،ص:250.

[59] تهذيب اللغة،الأزهري،ص:50.

[60] ص: 2، تحقيق عبدالسلام محمد هارون.

[61] العدد 7/4.

[62] المكان نفسه

[63] تاريخ الأدب العربي،2/124