ما بين المنهجين. بغداد إذاً لم تضف جديداً بل كسرت جليد العداوة الصفيق، وتركت للدارسين حرية الاختيار واصطفاء الأفضل؛ لكن أليس في هذا الاصطفاء إعمال للعقل، ووضع للقديم على مشرحة البحث والتقويم والغربلة؟ تأخر تمصير بغداد فتأخر دورها في الدراسات النحوية، لكن لا بد للعاصمة من استقطاب النخبة، ولا بد للنخبة من أن يولوا وجوههم شطر العاصمة؛ لأن ما تقدّمه العاصمة- وعلى مرّ العصور وكرّ الدهور- للنخبة الأفذاذ لا تستطيع أن تقدمه لهم الأطراف مهما كان موقعها الفكري والسياسي عظيماً وعريقاً ومتقدماً. هذا سبب من أسباب انتقال الدرس النحوي إلى بغداد. غير أن هذا الانتقال ترك آثاراً إيجابية في توجيهه وتسديد مسيرته. فالمناظرات النحوية، وجلسات الحوار المفتوح بين شيوخ المدرستين الذين غصّت بهم بلاطات الخلفاء والوزراء والأمراء قد نبّهت الطرفين إلى أهمية الحوار، ودوره في تضييق فجوة الخلاف، وإلى ترسيخ اقتناع جوهري بنسبية الحقائق، وإلى ضرورة القضاء على أسباب العداوة والتباعد بعد أن بلغا من العمر عتيّاً.‏

ثانياً- موقف القدامى من مدرسة بغداد:‏


يبدو أن خلط آراء المذهبين لم يرق للقدامى الذين رأوا أن مبدأ الاصطفاء لا ينهض بقيام تيار نحوي جديد. ولهذا رأينا الزبيدي (ت 379هـ) يتجاهل البغداديين، وحذا حذوه معاصره ابن النديم (380هـ). والناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم كما يقول الجاحظ. وأرى هنا ضرورة الوقوف وقفة متأنية نناقش فيها موقف اثنين من كبار مصنّفي كتب الطبقات عند العرب.‏

أ-محمد بن الحسن الزُّبيدي (ت379هـ):‏

صنّف الزبيدي كتابه طبقات النحويين واللغويين تلبية لطلب الخليفة الأندلسي المستنصر بالله(1)، وذكر فيه "النحويين على طبقاتهم واللغويين بعدهم" وقدّم "البصريين من كلتا الطبقتين لتقدّمهم في علم العربية، وسبقهم إلى التأليف فيها(2)" والغريب أن الزبيدي ترجم فيه على التوالي للبصريين والكوفيين والمصريين والقرويين (الأفريقيين) والأندلسيين، ولم يترجم للبغداديين. ويبدو أن سبب استبعادهم عائد إلى عدم قدرتهم على تأليف مذهب مستقل. فلقد قال في ترجمته لابن كيسان (ت 299هـ):(3) "وكان بصرياً كوفياً، يحفظ القولين، ويعرف المذهبيين" ترى هل أهمل ذكر البغداديين لأنهم كانوا بصريين كوفيين؟ وهل كان المطلوب من بغداد أن تحدث مذهباً ثالثاً معادياً للمذهبين السابقين لتكون لها مدرسة يعترف بها الزبيدي؟ وإذا كان هذا سبب إغفال البغداديين فلماذا ترجم للمصريين والأندلسيين وهم الذين تابعوا البغداديين في اصطفاء الأفضل، والخلط بين آراء المدرستين الأوليين؟ والأغرب أن الزبيدي حشر ابن كيسان في صفوف الطبقة السادسة من الكوفيين على الرغم من قوله(4): "وكان ميله إلى مذهب البصريين أكثر". فالذين أنكروا وجود مدرسة بغداد كانوا يصنفون علماءها بين الكوفيين أو البصريين، ومعيار التصنيف عندهم غلبة أحد المذهبين على آراء المصنِّفين. والزبيدي صنف ابن كيسان بين الكوفيين على الرغم من اعترافه بغلبة مذهب البصرة على آرائه النحوية. أليس في هذا التصنيف ما يدعو إلى العجب؟‏

من يراجع كتب الطبقات يتأكد من غلبة المذهب البصري على آراء من صنّفوا بغداديين. فلماذا بقي إذاً ابن كيسان كوفياً في تصنيف الزبيدي؟ ألأن المذهب الكوفي كان في البدء راجحاً في بغداد لسبب أو لآخر، أم لأن المذهب البصري لم يفرض وجوده فيها إلا متأخراً؟‏

ب-ابن النديم (ت 380هـ):‏

كان ابن النديم أكثر دقة من الزبيدي عندما خص من خلطوا المذهبين باب مستقل في كتابه حيث قال(5): "أسماء وأخبار جماعة من علماء النحويين واللغويين ممن خلطوا المذهبين". وقد ترجم ابن النديم لابن كيسان- المتقدم ذكره- ضمن هذا الباب(6). وكان ابن النديم قد تكلم في فصلين سابقين على "أخبار النحويين واللغويين من البصريين(7)" أولاً وعلى "أخبار النحويين واللغويين الكوفيين(8)" ثانياً. وإذا به يغفل مدرسة بغداد ولا يذكر أن الذين خلطوا المذهبين هم بغداديون. وبذلك يكون ابن النديم قد تحاشى إطلاق اسم المكان على التيار النحوي الجديد في منهجه، القديم في أكثر محتواه.‏

ثالثاً- موقف المحدثين من المدارس النحوية:‏

شجع موقف الزبيدي وابن النديم من مدرسة بغداد بعض المحدثين على مراجعة الرأي في وجود المدرستين المعترف بهما في القديم والجديد، وراحوا يبحثون عن مقومات المدرسة النحوية وشروط قيامها أولاً. وبعد أن تكونت عندهم معايير دقيقة لقيام المدرسة النحوية عرضوا الدراسات القديمة عليها فتبين لهم بما لا يقبل الشك أن الدرس النحوي في البصرة والكوفة لا يستأهل تسمية "مذهب" أو "مدرسة"، وانتهوا إلى إنكار وجود مدارس نحوية عربية بالمطلق. وللخروج من هذا المأزق ارتجلوا مصطلحاً جديداً هو الدرس النحوي مضافاً إليه اسم المكان، فقالوا: الدرس النحوي في البصرة بدلاً من مدرسة الكوفة، والدرس النحوي في بغداد بدلاً من مدرسة بغداد.‏

لن أتصدى لكل المقولات المعاصرة في هذا الباب بل سأكتفي بمناقشة آراء ثلاثة من كبار الأكاديميين المعاصرين الذين ذهبوا إلى عدم الاعتراف بوجود مدارس نحوية عربية.‏

أ-الأستاذ سعيد الأفغاني:‏

قال الأفغاني في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (من تاريخ النحو)(9): "هذه الصفحات محاولة في وضع الأمور في نصابها حيال ما يسمى بالمدارس أو بالمذاهب النحوية" ويستنتج من هذا الكلام أن الأفغاني غير معترف بصحة التسمية (مدرسة نحوية) أو (مذهب نحوي) وأنه سيضع- في هذا الكتاب- الأمور في نصابها الصحيح، وأنه سيصوب فيه خطأ تاريخياً وعلمياً ترسخ في أذهان الناس وفي مقولات الدارسين.‏

تتبعت آراءه بدقة متوقعاً أن يصحح فيه هذه التسميات القديمة التي كانت فضفاضة على الدراسات النحوية فإذا بي أفاجأ بالعنوان الكبير الآتي (المدرستان الأوليان) وتحته بحرف أصغر: مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة(10)، ثم خص الكوفة بعنوان كبير هو مدرسة الكوفة(11). وغير التسمية فيما بعد فوضع عنواناً ثانوياً هو: الفروق بين المذهبين البصري والكوفي(12). وهذا يعني أن المصطلحين (مدرسة) و(مذهب) شيء واحد عنده. ولا اعتراض على هذا الخلط لأن المصطلحين في دلالتهما الاصطلاحية شيء واحد في الحقيقة لكن الاعتراض يكمن في عدم وفائه بما وعد به في المقدمة. ألم يعدنا بإصلاح الوضع القائم؟ ولكن شيئاً من هذا القبيل لم يتحقق، وبقي الوضع القائم على حاله في طيّات الكتاب. كما أفرد باباً لنحو بغداد عنوَنه بقوله: المذهب البغدادي(13). وكان الكلام على هذا المذهب مقتضباً جداً ضاق به صدر الملف فختمه في السطر الرابع من الصفحة الثالثة بقوله(14): "وانتهينا إلى لزوم تصحيح التسمية الشائعة: المذهب البصري والمذهب الكوفي والمذهب البغدادي، وأن الأصوب أن يقال: نحاة بصريون ونحاة كوفيون ونحاة بغداديون... الخ". والسؤال البديهي هنا هو: إذا كان تصحيح التسمية الشائعة لازماً فلماذا لم يلزم الأفغاني نفسه بما قد أصرّ عليه قبل هذا التصريح وبعده؟ وها هو ينتقل إلى دراسة النحو الأندلسي فيعنون هذا الباب بقوله(15): "المدرسة الأندلسية" فجاء هذا العنوان في الصفحة نفسها ومباشرة بعد الكلام الذي ثار فيه على المذاهب والمدارس. وبقيت التسميات القديمة على حالها في كتاب الأفغاني على الرغم من دعوته الملحّة إلى ضرورة أن يستبدل بها ما هو أفضل منها. والتسمية التي اقترحها الأفغاني هي إطلاق اسم المكان على الدراسات النحوية بغية التخلص من مصطلحي "مدرسة" و"مذهب" اللذين كانا غير متحققي الوجود في الدراسات النحوية القديمة.‏

ب-د. البدراوي زهران:‏

رأى د. البدراوي زهران أنّ إطلاق مصطلح "مدرسة" أو "مذهب" على الدراسات النحوية لا يخلو من تعنّت وتعسّف ومغالاة. فالمدارس والمذاهب ينتظمها منهج صارم، وطريقة معينة في التناول وهذا ما لم يلمحه بوضوح في هذه الدراسات(16): "اللهم إلا إذا أقمنا التقسيم على أسس مكانية أو زمانية أو أردناه تقسيماً سياسياً وفرقياً، وهذا لا يُعدّ تقسيماً من حيث مناهج الدراسة وطرق التناول".‏

إن اعتماد التقسيم المكاني أو الزماني الذي انتهى إليه الدكتور زهران لا يحلّ الإشكال لأنه انزلق إلى اعتماد التقسيم السياسي أو الفرقي. وهذا التقسيم لا تغيب عنه ملامح المنهج الخاص في المعالجة. والفرق الإسلامية كانت تمتلك في تلك الحقبة مناهج خاصة في البحث من استقراء، وتعليل، وقياس، وتأويل، وإسقاط دليل، وإجماع، وما إليها من أصول. وقد تسلّلت هذه الوسائل إلى الدرس النحوي وتوسع النحاة في استخدامها حتى تحدث ابن جني (ت 392هـ) عن تسرّب مصطلحات الفقه إلى اللغة والنحو. غير أن د.زهران وقع في التناقض عندما قال(17): "فكلهم كما نرى سار في منهج واحد أو كاد، وكلهم تأثّر بالمنطق. فقاسوا وعللوا وافترضوا وأوّلوا، وكلّهم اصطنع نظرية العامل، وكلهم سار في طريق البحث عن الصحة والخطأ، وكلهم درس كتاب سيبويه بل وجعله عمدته... ولم تخرجهم اختلافاتهم عن إطار دائرة المنهج الواحد، ويكاد يكون مبعثها الفروق الفردية التي يبرزها تناول الواحد منهم للموضوع، وحسن استفادته أو شدة تأثره باطلاعاته ودراساته لبعض العلوم المترجمة والأجنبية".‏

بدأ د.زهران باتهامهم بغياب المنهج- كما رأينا- ثم تراجع معترفاً بأن منهج البصريين والكوفيين واحد. وعاب هذا المنهج لتأثره بالمنطق، ونسي أن النحو كان منطق العرب قبل أن يتعرفوا منطق اليونان. ثم لنفترض أن النحو متأثر بالمنطق الأرسطي فالمنطق يسدد الدراسة، ويوضح الخطوات، ويجعل طرق البحث مستقيمة لا لبس فيها ولا غموض، ويكفل للمنهج ترابطه عبر خطوات البحث المتلاحقة. ألا يكفي المنطق بما فيه من مقدمات وقياس وتعليل وتأويل ونتائج لبناء هيكلية موحدة للبحث؟ فلماذا يتهمهم بعدم وجود المنهج وهو الذي يعترف أن خلافاتهم لم تخرجهم عن إطار دائرة المنهج الواحد؟‏

أما اختلاف الآراء وتباينها ضمن المذهب الواحد فهو من طبيعة التجمع البشري؛ فليس في المجتمع شخصان متفقان في آرائهما بحيث يكون الواحد منهما صورة طبق الأصل عن الآخر. وما العيب في وجود آراء فردية ضمن المذهب المتماسك؟ ألم يؤلف المعتزلة فرقاً متعددة تنضوي جميعاً تحت لواء الاعتزال؟ ألم يعتمدوا هم جميعاً العقل حتى جعلهم اعتمادهم هذا فرقاً متعددة؟ ألم يؤلف الرومانسيون تيارات شخصية متعددة ضمن المذهب الرومانسي؟ وهل كانت كلاسيكية الكلاسيكيين واحدة؟ ألم نشهد اليوم تيارات متعددة في الحزب السياسي الواحد؟ فهذه الأجنحة والتيارات داخل المذهب الفكري ليست بالضرورة عيباً وعامل انقسام بل هي في أكثر الأحيان عوامل إغناء له لأنها تغنيه من الداخل، وترفده بمخزون فكري متنام يوفر له عوامل الاستمرار، فلا تخرّب خطّه الفكري العام، ولا تقوّض أركانه ولا تقضي عليه. والتساؤل الذي يطرح نفسه في نهاية المطاف: هل يكفي الاعتراف بالوجود المكاني- دون سواه- لمدارس النحو للقول إنها غير موجودة؟‏

جـ-د.محمد كمال بشر:‏

ألغى د.بشر وجود مدرستي البصرة والكوفة لينسحب حكمه حتماً على مدرسة بغداد. ومسوّغ هذا الإلغاء في نظره أنه(18): "ليس لإحدى المدرستين منهج بالمعنى الدقيق، وإنما لكل منهما مجموعة من الاتجاهات التي يغلب بعض معيّن منها على مدرسة دون الأخرى". هذه تهمة ربما صحّت بالمطلق إلا إنها غير صحيحة إذا ما درسنا كلا المنهجين دراسة تفصيلية تتناول الأصول والفروع التي قامت عليها المدرستان.‏

واتهامه الثاني يتلخص في أن(19): "طريقة البحث عندهما تتسم بعدم التعامل وبالخلط بين المبادئ اللغوية والفلسفية وغيرها، كما تتسم بعدم الالتزام بخط تفكيري واحد" أتساءل هنا قائلاً: هل النقص في المنهج-إذا صحّ- كاف لنقض المنهج من أساسه والحكم ببطلانه جملة وتفصيلاً؟ والتساؤل الآخر: إذا كانت المدرستان غير قائمتين فلماذا يتابع د.بشر كلامه عليهما معترفاً بأن(20) "المدرسة البصرية" تنفرد بالاعتماد على الأفكار الفلسفية أكثر من الكوفية، كما تنفرد هذه الأخيرة بالاهتمام الزائد بكل ما هو مسموع وبالقياس عليه" يمثل هذا الكلام إقراراً بوجود المدرستين أولاً، واعترافاً بخطهما وأسلوبهما في البحث ثانياً، وتميّز الواحدة من الأخرى وانفرادها في اعتماد أصل من أصول النحو والمبالغة في هذا الاعتماد إلى حد المغالاة ثالثاً. فكيف يصح بعد ذلك اتهامه لهما بعدم وجود النهج بعدما اعترف بوجود نهج فلسفي وأصلين هامين من أصولهما هما السماع والقياس؟ وأعتقد أن هذا النقص الذي لمحه د.بشر عده القدامى فضيلة ودعامة للدرس النحوي لأن الاهتمام بالجانب الفلسفي المنطقي- على تعقيده اللغة- ضبط المنهج، ووفّر له أسباب التماسك، ووحدة الرؤيا، والاستدلال والاستنتاج. أما أن ينتهي د.بشر إلى الاعتراف بوجود(21) "مجموعات من الدارسين عاشت كل مجموعة في مدينة مختلفة، فهي إذن مدارس جغرافية لاعلمية" فأمر غريب حقاً لأن الاعتراف بالمدارس الجغرافية لا يلغي وجودها الفكري على الإطلاق.‏

رابعاً- محدثون أنكروا وجود المدرسة البغدادية:‏

ظهرت أخيراً كوكبة من الباحثين المحدثين الذين أنكروا وجود مدرسة بغداد النحوية لأنها لا تحمل جديداً، ولأنها اكتفت بخلط آراء المدرستين الأوليين. ومنكرو مدرسة بغداد كثيرون أكتفي بمناقشة آراء الذين تصدوا منهم بعنف لوجودها لأبيّن في النهاية أنها موجودة ولها استقلالية في البحث وإضافات لا يستهان بها. من هؤلاء:‏

1-د.عبد الفتاح شلبي:‏

بكّر د.شلبي في نفي وجود مدرسة بغداد النحوية، وبثّ نفيه هذا في كتابه (أبو علي الفارسي)(22) الذي رأى فيه(23): "أن ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن هناك مدرسة نحوية باسم مدرسة بغداد متميزة عن المدرستين البصرية والكوفية، لا يتفق مع ما كان يراه الأقدمون الأولون من أصحاب التراجم والطبقات" والملاحظ أن د.شلبي اعتمد في حكمه هذا على ما قدمنا ذكره من رأيي الزبيدي وابن النديم. لكن لماذا لا يعترف بمدرسة متميزة عن المدرستين الأوليين، ومدرسة بغداد متميزة عنهما فعلاً؟ صحيح أنها أخذت منهما لكنها ليست هذه ولا تلك؛ والذي يميّزها حسن الاختيار وعدم التعصب، والموازنة الصحيحة، وانتهاجها خطأ فكرياً منفتحاً حملها على الجرأة في مخالفة إحدى المدرستين، أو مخالفتهما مجتمعتين. وقد جاءت بآراء لم تأت بها سالفتاها، وأقرّت أصولاً نسبت إليها. وأرى أن د.شلبي كان قد اعترف بوجودها المميز عندما قال(24): "وقد احتفظت المدرستان بوجودهما المنفصل حتى نهاية القرن الثالث أو وسط القرن الرابع، وحينئذ أصبحتا مختلطتين في المدرسة الجديدة في بغداد" ألا يعني كلامه هذا اعترافاً بالمدرسة البغدادية؟‏

2-د.مازن المبارك:‏

ذهب د.المبارك إلى نفي قيام مدرسة بغداد في أطروحته التي منح بها شهادة الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1960 وهي بعنوان "الرمّاني النحوي" فقال(25): "على أننا إذا قلنا إن بغداد قد اتسعت للمذهبين النحويين البصري والكوفي، وأن من علماء النحو فيها من كان بصرياً، ومنهم من كان كوفياً، ومنهم من لم يكن بالبصري المحض، ولا بالكوفي المحض، فلسنا نعني أن هذه الطائفة الثالثة تشكل مدرسة بغدادية جديدة ذات منهج نحوي مستقل.. وإذا كان لبعض هؤلاء العلماء البغداديين أقوال تفردوا بها دون المذهبين فإن ذلك لا يعني قيام مذهب جديد، ولا يعني نشوء مدرسة بغدادية".‏

ألا يرى الدارس أن المبارك مصرٌّ على نفي وجود المدرسة البغدادية على الرغم من اعترافه بمقومات وجودها؟ ألا يتساءل القارئ معي عن مسوغ نفي وجودها على الرغم من اعترافه بأقوال تفرد بها علماؤها؟ فما الذي يحمله على الاعتراف بها إذاً؟ ولم يعد مستساغاً ولا مقبولاً في نظر المبارك إطلاقاً تسمية مدرسة أو مذهب بعد(26): "أن طوت مدرستا البصرة والكوفة أعلامهما، ولم يعد الأمر في بغداد أمر منهج قياسي أو منهج سماعي يحمل لواء كل منهما طائفة من النحاة... وإنما حل محل المدارس والمناهج شيوخ تختلف مناهجهم وأساليبهم باختلاف عقليتهم وثقافتهم". غريب أمر هذا الكلام، فالبغداديون لهم منهج في القياس مختلف عن مذهبي البصريين والكوفيين، وإن كان نهجهم في السماع أكثر قرباً من منهج الكوفيين. لقد ذهبت المدارس في نظر المبارك بعد "أن طوت مدرستا الكوفة والبصرة أعلامهما" و"حل محل المدارس والمناهج شيوخ تختلف مناهجهم وأساليبهم" والسؤال هنا من الذي يكوّن المذهب النحوي الجغرافيا أم الناس؟ ثم لماذا الاعتراف بدور علماء كل من البصرة والكوفة في تأسيس المذاهب وحرمان أعلام بغداد من هذا الحق؟ كيف استطاع المبارك فصل النظرية عن صاحبها، وكيف تستقل المدرسة عن الشيخ وأسلوبه والشيوخ هم المنطلق في إرساء قواعد المنهج والأساليب التي تشكل بعد بلورتها ووضوحها مدرسة أو مذهباً؟ ومن يراجع مؤلفاً آخر للمبارك هو (الزجاجي)(27) يستطيع أن يستنتج منه اعترافاً بمبادئ المذهب البغدادي المتمثلة "في البعد عن حمى التعصب، وحماسة الجدل، وعزة التمسك بالرأي، وانتخاب الرأي الموافق دون النظر إلى نزعة صاحبه، وأنهم كانوا أحراراً في اختيارهم" ألا تعني هذه المبادئ أن المبارك معترف ومقر بوجود المدرسة البغدادية، ومستحسن لما قامت عليه من أصول ومبادئ؟‏

3-د.فاضل السامرائي:‏

نفى د.فاضل السامرائي وجود مدرسة بغداد النحوية في دراسته التي قدمها لنيل شهادة الماجستير سنة 1964 وعنوانها ابن جنّي النحوي. وقال في الفصل الذي عقده لبحث مذهب ابن جني النحوي بعد أن أثبت آراء المتقدمين والمتأخرين في مدرسة بغداد(29): "وعلى هذا فأنا أرى أنه لا يثبت وجود مدرسة بغدادية إلا إذا ثبت أنها مدرسة مستقلة، وكيان خاص، وأن نحاتها يتصفون بهذه الصفات أيضاً وذلك لم يثبت عندي فيما بين يدي من المصادر". لقد ذهب إلى هذا الرأي بعدما تبين له أن المكان لا يصلح قاعدة لقيام مدرسة؛ فقد يعيش النحوي في بغداد وهو بصري المذهب أو كوفيه. وهذا الرأي صحيح جداً لكن البغداديين يشكلون مدرسة بحسب الشروط التي وضعها السامرائي لقيام المدرسة النحوية؛ فلهم منهج مميز وطريقة مختلفة في التعاطي مع الآراء النحوية السابقة. والبغداديون لم يقفوا عند حدود متابعة الكوفيين والبصريين وتبني آرائهم بل إنهم اجتهدوا وأضافوا إلى النحو إضافات حسبت لهم في القواعد والمصطلحات والأصول والشواهد النحوية.‏

4-د.مهدي المخزومي:‏

صدر للدكتور المخزومي سنة 1974 كتاب بعنوان "الدرس النحوي في بغداد" الذي أعاد طباعته سنة 1987(30). وقد تابع فيه موجة الابتعاد عن الاعتراف بالمدارس النحوية واحتلال مصطلح الدرس النحوي بتحديد المكان بعده لأن هذا المصطلح أكثر ملاءمة للحقيقة والواقع. وكان قد سبقه إلى ذلك كثيرون منهم من ذكرناه سابقاً، ومنهم من اعتمد ذلك في دراسات أكاديمية كالدكتور "عبد العال سالم مكرم" في رسالة الماجستير التي تقدم بها إلى كلية دار العلوم بالقاهرة سنة 1962 وكان عنوانها "المدرسة النحوية في مصر والشام في القرنين السابع والثامن من الهجرة(31)، والدكتور "أحمد نصيف الجنابي" في أطروحة الدكتوراه التي تقدم بها سنة 1977 إلى إحدى كليات الآداب بمصر وأشرف عليها د.رمضان عبد التواب وعنوانها: "الدراسات اللغوية والنحوية في مصر منذ نشأتها حتى نهاية القرن الرابع الهجري(32)".‏

لم يترك د.المخزومي مجالاً للتساؤل عن أسباب اعتماده هذا العنوان بالذات بل صرح بذلك قائلاً(33): "ولم أجعل عنوان هذا الكتاب مدرسة بغداد، أو مذهب بغداد في النحو، لأن مدرسة الكوفة أدق في الدلالة على ما يراد بمدرسة بغداد" والطريف في الأمر أن د.المخزومي قد ذهب بعد صفحات إلى إلغاء مدرسة الكوفة نفسها عندما قال(34): "وأما الكوفة فلم يكن لها تاريخ في الدرس النحوي، والنحاة الذين عرفتهم الكوفة كانوا تلاميذ للبصريين لم يتعمقوا في الدرس، ولم يبرعوا فيه، واكتفوا من محصولهم النحوي أن يشتغلوا في الكوفة بتأديب الأمراء والموسرين، ولم يضيفوا إلى ما تلقوه عن أشياخهم البصريين جديداً، ولم يغيروا من أسلوبه شيئاً". فكيف تكون مدرسة الكوفة أدق في الدلالة على ما يراد بمدرسة بغداد، والكوفة باعترافه ليس لها كيان مستقل في الدراسات النحوية؟ والسؤال هل نسي د.المخزومي أنه كتب أطروحته التي تقدم بها إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1953 لنيل شهادة الدكتوراه وكان عنوانها "مدرسة الكوفة"(35)؟ فإذا كانت الكوفة نكرة في النحو فكيف استطاع أن يكتب أطروحته عنها وعدتها أربع مائة وثلاثون صفحة من القطع المتوسط؟ وإذا كان هذا التراجع غريباً، فالأغرب أن يكون قد اعترف بوجود المذهب البغدادي في أطروحته تلك. قال(36): "فليس المذهب البغدادي إذن إلا مذهباً انتخابياً، فيه الخصائص المنهجية للمدرستين جميعاً". فهل كان المخزومي واهماً سنة 1953 وعاد عن وهمه سنة 1974 عندما قال(37): "وجاء المتأخرون من النحاة فرأوا اسم البغداديين يذكر إلى جانب الكوفيين والبصريين، فذهب بهم الوهم وراحوا يركبون الصعب في تصوير مذهب ثالث يقف بإزاء مذهب أهل البصرة ومذهب أهل الكوفة"؟‏

لا غرابة في أن يعود المخزومي سنة 1974 عن رأي قاله سنة 1953؛ ولكن الغريب حقاً أن يثبت في الكتاب عينه ما كان قد أنكره فيه قبل صفحات. ها هو ذا يعنون فصلاً من فصول كتابه بما يأتي: خصائص المذهب البغدادي(38). ولا يشفع له بإثبات هذا العنوان قوله بعده مباشرة(39) "ولا بد لكي نرسم خطوط المذهب البغدادي (الكوفي)..." لأنه ألغى المذهب الكوفي سابقاً. وعاد في كتابه هذا مراراً إلى إثبات مصطلح الدرس البغدادي فهل كان العنوان الآنف ذكره (خصائص المذهب البغدادي) من قبيل بدل الغلط أو زلة لسان تفصح عن حقيقة مستكنّة يريد صاحبها قمعها وكبتها لغاية من الغايات؟‏

خامساً- شروط المعجمات والموسوعات لقيام (مدرسة أو مذهب):‏

لا شك في أن الدراسات الحديثة تستقي كثيراً من المعجمات والموسوعات وتعرض على شروطها الوضع القائم لتحكم بتوافر شروط المعجمات فيه أو عدم توافرها ليكون حكمها في النهاية محصّناً ومتيناً ومتماسكاً. لهذا رأيت ضرورة العودة إلى المعاجم الموثوقة والموسوعات الأجنبية التي كانت منهلاً لها في المصطلحات الفكرية العالمية لتحديد مصطلحي "مدرسة" و"مذهب" ولمعرفة مدى توافر الشروط في المدرسة البغدادية أو عدم توافرها.‏

1-المعجم الوسيط:‏

أقر مجمع اللغة بالقاهرة تعريفاً للمدرسة يقول(40): "المدرسة: جماعة من الفلاسفة أو المفكرين أو الباحثين، تعتنق مذهباً، أو تقول برأي مشترك" كما أقر تعريفاً للمذهب مفاده(41): "أنه مجموعة من الآراء والنظريات العلمية والفلسفية ارتبط بعضها ببعض ارتباطاً يجعلها وحدة منسقة". وانطلاقاً من هذين التعريفين يمكن التأكيد بما لا يقبل الشك أن الدرس النحوي في بغداد قد توافرت فيه شروط المدرسة أو المذهب لأن البغداديين جماعة من النحاة يقولون برأي مشترك مفاده التحرر من التطرف، وخلط المذهبين، وانتهاج الاعتدال، إلى جانب إقرارهم قواعد مميزة في أصول النحو من سماع وقياس وما إلى ذلك مما سنحاول توضيحه لاحقاً.‏

2-المعجم الأدبي (د.جبور عبد النور):‏

ذهب الدكتور عبد النور إلى أن المدرسة(42): "مذهب فلسفي أو فني ينتمي إليه أنصار ومحبذون يتقيدون بتعاليمه، ويسعون إلى تحقيق الغاية منه" ورأى أن المذهب(43) (فنياً): "آراء وتقنيات يعتمدها الفنان أو الأديب في تحقيق آثاره. ويقرب هنا معنى الكلمة من مدلول المدرسة". وهذه الشروط الواجب توافرها في المدرسة أو المذهب كما حددها عبد النور متوافرة في مجموعة النحاة البغداديين كما سنرى.‏

3-معجم المصطلحات النحوية والصرفية (د.اللبدي):‏

أهمل د.اللبدي مادة (مدرسة) لكنه عرّف المذهب بقوله(44): "هو النهج الذي ينتهجه المصر أو الطائفة أو العالم في تقرير الحقائق وطرق رصدها ووسائل جمعها. وقد يكون المذهب أخص من ذلك فيطلق على ما يرتئيه الشخص الواحد في المجموعة الواحدة... وأما كلمة المذهب أو المذاهب المستعملة في مجال النحو فهي أهم من ذلك إذ تنتظم المدلولين السابقين).‏

الجديد في تعريف اللبدي ذكره لفظ (المصر) أو البلد وهنا يمكن أن تتهاوى حجة اللاجئين إلى المكان الجغرافي هرباً من تسمية الدرس النحوي فيه بمدرسة أو مذهب. والواقع أن البغداديين انتهجوا نهجاً واحداً في طرق درسهم للنحو ولو كانت لكل واحد منهم آراء ينفرد بها: فاللبدي أقر باختلاف الآراء في المذهب الواحد لأنه يغني المذهب ولا يشل فاعليته. ولهذا- ربما- ذكر اللبدي المذهب البغدادي بقوله(45): "نشأ هذا المذهب في وقت كان فيه مذهب البصرة والكوفة قد نضجا واكتملا ولم يعد لغيرهما أن يبدع أو يضيف ولهذا قام المذهب البغدادي على نهج انتخابي توفيقي" وإذا كان اللبدي قد تابع المتقدمين في مقولتهم: النحو علم نضج واحترق؛ فإننا لا نوافقه في رأيه أن البغداديين اكتفوا بانتخاب الأفضل لأنهم عدلوا في ما انتخبوه وأضافوا أحياناً إضافات لا تقل شأناً عن إضافات السابقين.‏

4-موسوعة لاروس GRAND LAROUSSE DE LA LANGUE FRANçAISE:‏

في هذه الموسوعة تعريف للمدرسة «école2» ترجمته(46): "هي: مجموعة من المريدين الذين يتبعون تعاليم معلم في الفلسفة أو الفن أو الأدب أو الطب أو العلم...".‏

كما ورد فيها تعريف للمذهب doctrine3 وترجمته(47): "مجموعة من المبادئ والتعاليم المتأكد من صحتها والتي تشكل أساساً لدين أو لمنهج فلسفي أو سياسي...".‏

فهذه التعريفات التي ذكرتها المعجمات والموسوعات متقاربة وتكاد تكون واحدة. والشروط المفروضة فيها متحققة في الدرس النحوي في بغداد. وإنه لمن الطبيعي أن تتوحد أهداف المنضوين تحت لواء مدرسة نحوية واحدة وأن تتناسق المناهج، وأن يجمعها خيط فكري واضح. أما ما اشترطه د.السامرائي من توافر(48): "أسس مستقلة وآراء متميزة واضحة ومحددة" ثم توسيع شروطه مشترطاً تحقق ما يأتي: "ينبغي أن ينظر إلى هذا الأمر من ثلاث نواحٍ حتى يمكن إطلاق اسم مدرسة عليه:‏

آ-من حيث الأسس التي تتبعها في أصول البحث.‏

ب-من حيث المصطلحات.‏

جـ-من حيث المسائل الخلافية.‏

فإن استقلت في كل ذلك فهي مدرسة خاصة "وإلا فهي تبع" فشروطه هذه توافرت في النحو البغدادي فكيف لم يلمحها السامرائي؟ وما وجه الغموض فيها؟ رأينا سابقاً أن السامرائي لم يعترف بمدرسة بغداد لأن هذه الشروط غير متوافرة فيها وأعتقد أن سبب النفي عائد إلى خلط المذهبين لكن ألا يشكل هذا الخلط أساساً من أسس البحث عند البغداديين؟ وهذا النهج خاص بهم فلا البصريون ولا الكوفيون عرفوا بهذا النهج لأن العداء كان يحكم موقفهم. وللبغداديين مصطلحات تفردوا بها كما سنرى، ولهم أيضاً مسائلهم الخلافية. لهذا كان د.الراجحي محقاً في ما ذهب إليه من أن (50): "مدرسة بغداد تتميز بمنهجها الخاص، ولم يكن هذا النهج جديداً من حيث الأسس أو طرائق الاستنتاج ولكنه منهج ينبني على الانتقاء من المدرستين البصرية والكوفية". فهذا الانتقاء منهج في نظر الراجحي. وهو محق فيما ذهب إليه لأن البغداديين بسوادهم الأعظم ينتقون. ونرى في آرائهم موافقة للبصريين أو الكوفيين ولكنهم يخالفون أيضاً هؤلاء وأولئك. وأنا أذهب إلى أبعد من هذا فأرى أن نهجهم كان جديداً. فهو خاص بهم وجديد لأن السابقين لم يعرفوه، ولم يؤثر لا عن البصريين ولا عن الكوفيين. ألا يكفي هذا ليكون نهجهم جديداً؟‏

سادساً- المعترفون بوجود مدرسة بغداد النحوية:‏

أنكر المنكرون وجود مدرسة بغداد لأنها لا تملك في نظرهم مذهباً جديداً مميزاً ومتماسكاً، وليس لها مصطلحاتها ومسائلها الخلافية وأصولها النحوية المميزة. لكن ألا يملك مؤيدو وجودها من الحجج والبراهين ما يؤيد ما يذهبون إليه؟ كثيرون هم مؤيدو وجودها منهم القديم كابن خلدون (ت 808هـ) ومنهم المحدثون وهم بالعشرات.‏

فابن خلدون لم يميز بين الكوفيين والبصريين والبغداديين عندما تحدث عن طرق تعليم النحو عندهم فقال(51): "فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين، والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون، مختلفة طرقهم كذلك" وفي هذا الكلام اعتراف بطرق مختلفة لكل مدرسة من المدارس النحوية، وإقرار بوقوف بغداد وقفة الند للند مع المدارس المتقدمة والمتأخرة.‏

أما المحدثون فعلى رأسهم أحمد أمين الذي رأى أن الكوفيين والبصريين التقوا في بغداد "فوجد مذهب مُنْتَخب" فهو لم ينكر وجود مذهب جديد بل أقر بوجوده وراح يؤرخ نشأته في (ظهر الإسلام) قائلاً(53): "ثم شهد القرن الثالث الهجري امتزاج المذهب البصري بالمذهب الكوفي، وظهور منتخب من المذهبين، وشهد القرن الرابع تمام هذا الامتزاج".‏

أما الدكتور عبد الحميد حسن فيقر بما لا يقبل مجالاً للشك بوجود المذهب البغدادي عندما يقول(54): "وقد أتيح للبغداديين أن ينظروا في المذهبين البصري والكوفي، ويوازنوا بين آراء الفريقين فأنشأوا لهم مذهباً كان أساسه المستحسن من المذهبين، وأضافوا إلى ذلك ما عنّ لهم من آراء خاصة". فالدكتور حسن لا يكفيه الاعتراف بالمذهب البغدادي بل يضيف إليهم مأثرة الإضافة. وكل مذهب لا يضيف إلى التراث النحوي شيئاً يقزّم نفسه ويحكم عليها بأن تبقى ظلاً.‏

ويذهب طه الراوي إلى الاعتراف بهذا المذهب وإلى تحديد مناهجه في الدرس اللغوي فيقول(55): "وتخرج بهذه الكوفية جماعة من البغدادية، ولعوا بالتوسع في الروايات، والتباهي في الترخيصات، والتفاخر بالنوادر والطرائف، حتى ابتعدوا عن أصول أشياخهم واستوى لديهم مذهب انماز عن مذهب أسلافهم عرف بمذهب بغداد". يؤكد الراوي في كلامه هذا مجموعة حقائق متعلقة بكيفية النشأة ومسيرتها وتطورها، ثم يحدد منهجهم فإذا هو الإكثار من الروايات والتباهي في ذكر الضرورات. ولعل في بعض ما ذهب إليه انتقاصاً من قدر البغداديين وتجريداً لهم من بعض اجتهاداتهم الصائبة، ومواقفهم السديدة.‏

واعترف الشيخ محمد الطنطاوي بوجود المذهب البغدادي وحدد معالمه بقوله(56): "ولقد اتسعت هذه الحركة ونمت فعالجها الكثيرون، حتى احتل مكاناً بين المذهبين مذهب آخر جديد مؤلف من المذهبين بفروق قليلة، اشتهر ذلك المذهب بالبغدادي" وعد هذا المذهب طوراً من أطوار نمو النحو على الرغم من اعترافه بعدم وجود فروق كبرى بينه وبين كل من المذهبين البصري والكوفي.‏

وبعد أن كثر المعترفون به من أمثال أحمد مكي الأنصاري(57) الذي عدّ الفراء مؤسسه، وفتحي الدّجني(58) الذي عزا نشأته إلى زيارة سيبويه لبغداد في النصف الثاني للهجرة ظهرت أوسع دراسة لهذا المذهب عقدتها د.خديجة الحديثي في الجزء السابع من موسوعة حضارة العراق أماطت فيها اللثام عن تاريخ نشأته وأسهبت في إظهار خصائصه ومزاياه وقسمت شيوخه ثلاثة اتجاهات هي: اتجاه من ظل بصرياً واتجاه من ظل كوفياً، واتجاه من خلط المنهجين"(59). وجديد هذه الدراسة إسهابها في ترسيخ خصائص المذهب البغدادي إذ عدت لهم إحدى عشرة خاصة هي على التوالي: الخلط بين المذهبين المتقدمين، وكثرة لجوئهم إلى التحليل والتعليل والحجاج والجدل المصحوب بالاستدلال، واعتمادهم التقدير في العبارات والشواهد الفصيحة والآيات القرآنية التي يوحي ظاهرها بالخروج عن الكثير المطرد في كلام العرب، واعتمادهم التفريع والتجزئة عندما قسموا الموضوع إلى أجزائه وحدّوا كل جزء منها، وتأثر بعضهم بألفاظ أهل المنطق والفلسفة، واهتمام بعضهم باختيار الفصيح من المسموع بعد التثبت منه ومن فصاحة الناطقين به، واهتمامهم بمسائل التدريب، وإيثار كل شيخ من شيوخهم مصطلحات المذهب الذي يميل إليه، واهتمام بعضهم بالعامل النحوي ووضع أحكامه وتفصيل أصوله، وابتكار آراء خاصة لم يسبقوا إليها، والقياس أحياناً على الشاهد الواحد الفصيح المسموع. فهل تكفي هذه الخصائص والمزايا للقول بمذهب متفرده أو أن المكابرة تبقى سيدة الموقف؟‏

وظهر بعد هذا البحث الرصين دراسة أكاديمية هي في الأصل أطروحة أعدها محمود حسني محمود لنيل شهادة الدكتوراه نوقشت في مصر وصدرت في كتاب سنة 1986 وتقع في أربع مائة وسبع وستين صفحة من الحجم المتوسط (60). ورأت هذه الدراسة أن موقف المذهب البغدادي من السماع قريب من موقف الكوفيين لأن اللغات على اختلافهم حجة عندهم. أما القياس فلها منه موقف لا هو بالبصري ولا بالكوفي فهي(61): "تنظر في المثال وتتأمله وتدرسه دراسة مستفيضة" وموقفه من القراءات لا هو بصري ولا كوفي فالبصريون يرفضون الشاذ منها، والكوفيون يقبلونها على علاتها، أما البغداديون فلا يرفضون شيئاً منها إلا بعد مناقشة ولجوء إلى عناء البحث والتمحيص(62).‏

وإذا كان البغداديون متهمين في أصولهم هذه بالمتابعة والسير في ركاب القدامى فإن موقفهم الجديد تجلى بوضوح في قضية الشواهد، والشاهد في علم النحو هو النحو بالذات؛ لأن النحو يدرس التفاعل بين الكلمات ومادة الدراسة النحوية في القديم والحديث كلام العرب. فكيف كان موقف مدرسة بغداد من هذه الشواهد.‏

رفض البصريون والكوفيون الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف وبشعر المحدثين، وجعلوا ابن هرمة القرشي (ت 176هـ) سقفاً زمنياً لصحة الاحتجاج بشعر الشعراء فخالفهم البغداديون واحتجوا بالحديث النبوي. فأبو علي الفارسي (377هـ) احتج في (الشيرازيات) باثني عشر حديثاً، وحذا حذوه تلميذه ابن جني (ت 392هـ). وقد اكثر الزمخشري (ت538هـ) فيما بعد من الاحتجاج به حتى بلغ هذا الاحتجاج ذروته مع الرضى الاستراباذي (ت 688 هـ ) فاحتج على صحة القواعد النحوية بخمسة وأربعين حديثاً في شرح الكافية وبثلاثة فقط في شرح الشافية(63). وموقف البغداديين من الاستشهاد بالحديث النبوي لاقى استحسان الدارسين المحدثين مما حمل مجمع اللغة بالقاهرة على وضع شروط معينة لصحة الاحتجاج به(64). وهذا يعني أن موقف البغداديين سليم جداً، وأنهم صححوا خطأ المتقدمين وأسقطوا ذرائعهم في عدم الاحتجاج به.‏

أما احتجاجهم بشعر المولدين فكان جديداً أيضاً لأن البصريين والكوفيين احتجوا بما رواه أبو تمام (ت 232هـ) في حماسته ولم يحتجوا بشعره. فكيف يكون ثقة في ما روى ولا يكون ثقة فيما نظم؟ وعندما كانوا يحتجون بشعر المحدثين كانوا ينتحلون أعذاراً وحججاً أوهى من خيط العنكبوت فيحتجون به على المعنى لا على صحة القاعدة النحوية. أما أبو علي الفارسي فقد استشهد بشعر أبي تمام والمتنبي والبحتري وحذا حذوه الزمخشري واحتج ابن جني بشعر أبي نواس والمتنبي على المعنى دون اللفظ أو النحو. أما الاستراباذي فقد احتج بشعر المولّدين من دون حرج. ومن هؤلاء المحدثين الذين احتج بشعرهم أشجع السلمي (ت نحو 195هـ) وأبو نواس (199هـ) وأبو تمام (ت 232هـ) والمتنبي (ت 354هـ) وغيرهم كثير. وهكذا فإن البغداديين مجددون في شواهدهم، منسجمون في ضرورة التطور اللغوي المرافق لمرافق الحياة العامة.‏

ولمن يسأل عن جديدهم في مسائل النحو نقول: إن جديدهم مبثوث في كتب النحو استطعت أن أجمع منه بعض العينات التي لا بد من تقديمها ليطمئن خاطر المتسائلين عنه. أما صحة هذا الجديد فأمر الحكم عليها متروك لفطنة الباحثين. وإذا كان الجدل قد ثار حول بعض جديدهم فالجدل الذي أصاب بعض أحكام البصريين والكوفيين لم يطعن بصحة مذهبهم، ولم يؤدِِّ إلى إلغاء المذهبين. من هذا الجديد:‏

1-في تذكير العدد وتأنيثه:‏

ذهب المتقدمون إلى أن العبرة في التذكير والتأنيث بالمفرد لا الجمع. ولكن السيوطي يذكر للبغداديين رأياً جديداً مخالفاً هو(65): "يقال: ثلاثة سجلات وثلاثة دُنينرات (خلافاً لأهل بغداد) فإنهم يعتبرون لفظ الجمع فيقولون: ثلاث سجلات، وثلاث حمامات بغير هاء، وإن كان الواحد مذكراً".‏

2-إعمال المصدر المعرف بـ(ال):‏

كإعماله منوناً مع الاختلاف في العامل. يذكر السيوطي رأي البغداديين في المسألة فيقول(66): "وأنكره كثيرون، والبغداديون وقوم من البصريين، كالمنوّن، وقدروا له عاملاً".‏

3-عدّهم (ونى) فعلاً ناقصاً:‏

ذكر السيوطي رأيهم هذا بقوله(67): "قال أبو حيان: ذكر أصحابنا أن (ونى) زادها بعض البغداديين في أفعال هذا الباب لأن معناها ما زال، نحو: ما ونى زيد قائماً".‏

4-ويحه ويله ويسه مفاعيل مطلقة:‏

أثبت رأيهم هذا خالد الأزهري بقوله(68): "وذهب بعض البغداديين إلى أن ويحه وويله وويسه منصوبة بأفعال منل فظها".‏

5-مجيء (ليس) للعطف الذي يقتضي التشريك في اللفظ دون المعنى:‏

ذكر ابن هشام في باب عطف النسق(69) أن (ليس) عند البغداديين مما يقتضي التشريك في اللفظ دون المعنى. وأعطى شاهداً على ذلك قول لبيد:‏

وإذا أقرَضْتَ قرضاً فأجزه إنما يجزي الفتى ليس الجَمَلْ‏

وإذا تتبعنا آراء بعض شيوخ المذهب وجدنا في نتاجهم من الجديد الذي يستحق الدراسة والتمحيص. فالزجاجي (ت 377هـ) الذي وافق البصريين في أكثر ما ذهب إليه من آراء نحوية خالف الجمهور في كان وأخواتها فهي عندهم أفعال وعنده حروف. ولقد عنون الباب بهذا العنوان(70): "باب الحروف التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار" ولما عددها قال: هي "كان وأمسى...". كما خالف الجمهور في نصب المنادى فلقد قال: "كل منادى في كلام العرب منصوب إلا المفرد والعلم، فإنك تبنيه على الضم وهو في موضع نصب. وذلك قولك: يا زيد ويا محمد ويا بكر...". أما رأي الجمهور فقد أثبته السيوطي بقوله(72): "ويبنى العلم المفرد، أعني غير المضاف وشبهه، والنكرة المقصودة على ما يرفع به لفظاً".‏

ومن إضافات الزجاجي عده (قارب) من أفعال المقاربة(73). صحيح أن النحاة ذكروا أفعال هذه الباب وعدوا منه كل فعل يحمل معنى المقاربة. غير أنهم لم يذكروا (قارب). وقد جمع السيوطي ما أضافه النحاة من أفعال هذا الباب فأثبت (قارب) على أنها إضافات البهاري(73) وانتهى إلى القول(74): "وما زاده البهاري، ومن ذكر لا يقوم عليه دليل على أنه من أفعال الباب" والذي أراه- إن لم يجانبني الصواب- أن ما ذهب إليه البهاري والزجاجي صحيح ومستساغ وليس بحاجة إلى دليل لأن معناه يدل عليه.‏

كما أضاف الزجاجي (إلا أن يكون) على عبارات الاستثناء فقال(75): "وحروف الاستثناء: إلا، وغير، وسوى، وسواء، وحاشا، وخلا، وعدا، وما عدا، وما خلا، وليس، ولا يكون، وإلا أن يكون، ثم فصّل القول فيها (ص 233).‏

كما جوّز إعمال إنّ وأخواتها إذا دخلت عليها ما الكافة فقال(76): "ومن العرب من يقول: "إنما زيداً قائم، ولعلما بكراً مقيم فيلغي ما وينصب بـ إنّ وكذلك سائر أخواتها".‏

وقد ذكر السيوطي رأي الجمهور في المسألة فقال(77): "تلي (ما) ليت فتعمل وتهمل ولا يليها الفعل بحال في الأصح، والباقي فلا تعمل، وجوّزه الزّجاجي فيها". ولقد كف النحاة هذه الأحرف عن العمل إذا دخلت عليها ما الكافة لأنها لم تعد مختصة بالدخول على الأسماء بل هي حينئذ داخلة على الأفعال أيضاً فيقال: إنما يحقّ الله الحق وجوزوا عمل ليت وحدها إذا دخلت عليها ما الكافة لأنها لا تدخل على فعل.‏

ولو تابعنا هذا الجديد في أعمال أبي علي الفارسي لوجدنا عنده الكثير من عدّه العامل في المعطوف فعلاً محذوفاً(78) وعدّه حروف العطف تسعة لا عشرة بعد أن أسقط منها (إما) وفي أعمال ابن جني لوجدنا أنه أول من قال بنفي العلل الثواني والثوالث أو ما يسمى العلة(79) ومنهم من نسب إليه هدمه نظرية العامل عندما جعل الأثر كله للمتكلم وحده مبطلاً قول النحاة بعامل لفظي وعامل معنوي. وهذا الموقف من قضية العامل يناقض ما ذهب إليه البصريون والكوفيون لأنه هدم بذلك أقوى ركن من أركان المدرستين. وقد تابعه في هذا الموقف فيما بعد الاستراباذي وسار به أشواطاً كما تلقّف رأيه ابن مضاء القرطبي (ت 592هـ) في كتابه الرد على النحاة حتى عُدَّ صاحبه وهو في ذلك تابع وليس متبوعاً.‏

خاتمة:‏

وبعد هذا التوسع وتلك الإفاضة في أصول البغداديين وإضافاتهم أذهب مطمئناً إلى أن المدرسة البغدادية موجودة فعلاً وقد استوفت شروط الوجود والنشأة والبقاء واستطاعت أن تأخذ موقعاً مميزاً في تاريخ الدرس النحوي، وكانت لها شخصية مذهبية مستقلة كما كان لكل من البصرة والكوفة شخصيتها المميزة. وفضلها على الدراسة النحوية عميم فهي التي ذوّبت الفوارق، وقضت على التعصب والتشنج، وأحلّت العقل محل الهوى فراحت تغربل الآراء لتبني رأياً سليماً تؤيده الحجة، ويدعمه العقل، ولا يوهنه انتساب إلى مصر أو إلى مذهب سياسي. ولا ذنب لشيوخها إن هم تاجروا بميراث الأجداد ليحافظوا عليه، ويزيد ذمتهم المعرفية ويضاعفوا رصيدهم النحوي. ترى لو وقف البغداديون موقف العداء من المدرستين السابقتين أكانوا يرضون بذلك المعترضين على موقفهم؟ ولماذا يكون موقف التعصب والفرقة مقبولاً ويكون موقف التعقل والرزانة مرفوضاً دائماً وأبداً؟‏